خلال نهاية الأسبوع الماضي أدار الناخبون الأوروبيون ظهورهم للأحزاب السياسية التقليدية التي هيمنت على بلدانهم خلال معظم القرن الماضي، حيث صوتت أعداد كبيرة منهم لصالح أحزاب سياسية شعبوية تجعل من الهجرة والنزاع الثقافي مواضيعها الرئيسية، أو لصالح أحزاب الخضر التي تركز على البيئة ومخاطر تغير المناخ. وبالمقابل، أصبح المحافظون والديمقراطيون الاجتماعيون -على الأقل في الوقت الراهن- من بقايا ماضٍ آخذ في الانحسار بسرعة، ماضٍ كانت تمثل فيه الحجج حول الرأسمال والعمالة والضرائب رسائل وقضايا سياسية مهيمنة.
وكما بدأنا نرى في الانتخابات الأميركية أيضاً، فإن المواضيع التي تعبئ الناخبين اليوم هي ثقافية بدلاً من أن تكون مواضيع معيشية اقتصادية. إذ يشير المرشحون الجمهوريون ومن ينوب عنهم الذين ظهروا على برامج حوارية خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى أنه أياً يكن المرشح الذي سيرشحه الديمقراطيون في انتخابات 2020، فإن الرئيس دونالد ترامب ومَن معه سيخوضون السباق الأشد ضد باراك أوباما، حيث يأملون تقوية الأنصار الذين لم يستطيعوا تجاوز غضبهم من أن رجلاً أسود كان ذات يوم رئيساً منتخَباً للولايات المتحدة. وهكذا، فإن العرق والإجهاض والخوف الثقافي الذي يثيره انخفاض معدلات الولادة، هي المواضيع التي باتت تتسيد المشهد السياسي اليوم، والديمقراطيون سيجدون صعوبة كبيرة في تجنب خوض انتخابات، والفوز بها، على أساس هذه المواضيع.
وبالطبع، فإن خطابات ترامب ضد التجارة لها مكون اقتصادي حقيقي. لكن العامل الأجنبي –أي الشعور بأن العمال الأميركيين والأوروبيين تعرضوا للغش من قبل أجانب تلقوا المساعدة من أميركيين أغبياء أو خائنين– أصبح القوةَ السياسية المهيمنة على جانبي المحيط الأطلسي. وإذا كان من الصعب على المنظمات السياسية التقليدية أن تشرح لأنصارها الاقتصاد الجديد الذي تهيمن عليه التكنولوجيا، فإن معارضة ما يسمى «الآخر» – سواء أكان داخلياً أم خارجياً– يعد أسهل بكثير.
وبالطبع، فإن كراهية الأجانب والعنصرية ليستا جديدتين بالنسبة للمشهد السياسي الأوروبي أو الأميركي. بل الجديد، في اعتقادي، هو حجم الاضطراب الاجتماعي الذي يتسبب فيه الوصول واسع الانتشار لوسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، وتكنولوجيا أخرى جديدة عالمياً.
ذلك أن الأحزاب السياسية التقليدية أُضعفت جرّاء التحديات الكثيرة نفسها التي أرغمت الإعلام التقليدي على التكيف مع رقمنة المعلومات أو الموت. وزعماء الأحزاب لم يعودوا يحتكرون جمع التبرعات. كما أن تنظيم التجمعات العامة، أو نشر المعلومات (والمعلومات المغلوطة)، أو بناء تحالفات وحدة بات يحدث على الإنترنت الآن.
وهذا، على ما أعتقد، أحد أسباب صعود أحزاب الخضر وتجاوزها للأحزاب التقليدية القائمة على الاقتصاد في فرنسا وألمانيا وبلدان أخرى من الاتحاد الأوروبي.
وعلى سبيل المثال، فإن تحولاً ثقافياً كبيراً يجري حالياً في وقت بدأ فيه المواطنون الشباب يتخلون عن ملكية السيارة، التي كانت تمثل ذات يوم رمزاً قوياً للغنى والاستقلالية وبات يُنظر إليها اليوم كجزء من نمط حياة ملوِّث. وقد تكون مصطلحات الخضر بخصوص هذا الموضوع منطقية ثقافياً أكثر بالنسبة للناخبين الشباب وهم يشاهدون الحكومات تتعاطى على نحو متذبذب مع قوانين حول تقاسم رحلة السيارة، والمركبات المستقلة، وسيارات أجرة هوائية، مستقبلاً.
لكن الاضطراب على هذا النطاق ينشر أيضاً الخوف والاستياء وخاصة بين الأصغر سناً والأقل حركية في المجتمع. فوعد بريكسيت الزائف بتخليص بريطانيا من قوى أجنبية شريرة عبّأ نحو 30% من الناخبين وراء حزب نايجل فاراج، «حزب بريكست»، في تصويتٍ لبرلمان الاتحاد الأوروبي مزّق هياكل الزعامة القديمة لحزبي «العمال» و«المحافظين».
ومثلما هو الحال دائماً، فإن ترامب يذهب إلى مدى بعيد. هدفه الأكبر ليس أقل من سلسلة الإمداد العالمية التي خلقتها الاتفاقياتُ التجارية والشركات متعددة الجنسيات خلال أربعين عاماً الماضية لتسهيل حركة الرأسمال والسلع والأفكار. ولأن هذا موضوع يصعب شرحه من الناحية الانتخابية، فإن ترامب يستخدم مصطلحات مثل المغتصبين المكسيكيين، والإرهابيين، وسرقة هواوي للتكنولوجيا.. كرموز لمخاطر عالم أكثر انفتاحاً وترحيباً.
نطاق نوايا ترامب في حربه التجارية ونزعتها التدميرية كان محور مقابلة مع المستشار الاستراتيجي السابق لترامب، ستيفان بانون، نشرت في 22 مايو الماضي في صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست» في هونج كونج. ووفق بانون، فإن إخراج هواوي، التي تعتبر رائدة في تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات، من الولايات المتحدة وأوروبا، «أهم بعشر مرات» من التوصل لاتفاق تجاري مع الصين. ودعا بانون، الذي قال إنه يتحدث مع مسؤولي البيت الأبيض كل يوم، إلى العودة إلى مؤسسات كانت موجودة زمن الحرب الباردة، مثل «لجنة الخطر الموجود» لمواجهة الصين، وقال إنه تعهد بأن يكرس نفسه لمنع الشركات الصينية من أسواق رؤوس المال الأميركية. وفضلاً عن ذلك، فإن تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية على الواردات من المكسيك تضرب المهاجرين وتستهدف سلاسل الإمداد التي خلقها المصنعون الأميركيون للاستفادة من العمالة الرخيصة جنوب الحدود.
وخلاصة القول: إذا كانت أفضل رسالة لديك مجرد نسخة أخرى من فيلم «عودة إلى المستقبل»، فلا غرو أنك ستحتاج إلى كل بعبع يمكنك أن تتخيله.


*صحفي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»