يعد المشروع النهضوي الغربي أكثر مشروع مثّل إغراءً دائماً للمسلمين مما دفع بعضهم لمحاكاته، فتنازلوا عن الاجتهاد ووقعوا في التقليد. والتقليد لا يكون فقط للأسلاف، وإنما كذلك للأغيار. وكل مشروع نهضوي له أسسه ومقوماته. فإذا قام المشروع على الاجتهاد، أي قياس الفرع على الأصل لِتشابه بينهما في العلة، فإن المشروع الغربي يقوم على القطيعة بين الأصل والفرع، والتعارض بين الماضي والحاضر. فلا يمكن الجمع بين العصر الوسيط والعصر الحديث، بين سلطة الكنيسة وحرية الفكر، بين سلطة آرسطو وسلطة التجربة، بين الدين والعلم. فالعلاقة بين السابق واللاحق، بين السلف والخلف، بين القدماء والمحدثين.. علاقة «إما.. أو»، بمنطق الاختلاف والتعارض والتناقض والانقطاع وليس بمنطق التشابه والتماثل والهوية والتواصل. فالأصل لا يمكن البناء عليه، سواء أكان نصاً أم عقيدة أم سلطة، لأن فترة الرواية الشفاهية بين الإعلان والتدوين في حالة الإنجيل تتراوح بين الأربعين عاماً (الأناجيل المتقابلة) والمائة عام (الإنجيل الرابع). وفي حالة التوراة تصل ستمائة عام منذ موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد حتى الأسر البابلي في القرن السابع قبل الميلاد عندما دوّنها الكاتب عزرا خوفاً من الضياع.
والعقيدة كما صاغها آباء الكنيسة تمثلت في شعار «واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد»، وفي اليهودية صاغوا عقيدة «شعب الله المختار»، وأن اليهود أبناء الله وأحباؤه؛ أعطاهم الأرض والمدينة المقدسة، ووعدهم بها ولم يطلب منهم شيئاً بالمقابل، لا طاعةً ولا إيماناً ولا عبادةً. أما السلطة فكانت سلطة الأحبار التي تأتمر بأمر الملك، لا فرق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وتحولت إلى سلطة الكنيسة التي تحدد الإيمان وتتوسط بين الإنسان والله.
ولما بان عدم تطابق الأصل مع العقل والواقع والمصلحة، استحال القياس عليه، وابتدأ المشروع النهضوي الغربي فرعاً بلا أصل. لذلك فهو مشروع يقوم على الرفض والاستبعاد. فكل فعل يسبب رد فعل. فقد ظهرت محاكم التفتيش وحرق المفكرين الأحرار، ليقوم الإصلاح الديني البروتستانتي رافضاً لأي سلطة حتى لا يستبدل برجالُ الدين رجالَ العلم. وبدأت تظهر البدائلُ عن الأصل؛ العقلُ مرة عند العقليين (مثل ديكارت واسبينوزا)، والتجربة مرة أخرى عند التجريبيين (مثل لوك وهيوم). وبدأ الوعي الأوروبي كفكين مفتوحين، الأول إلى أعلى، والثاني إلى أسفل.. وحاول بعض فلاسفة القرن الثامن عشر (مثل كانط وفلاسفة الثورة الفرنسية) ضم الفكين، لكن عن طريق التجاور وليس عن طريق الوحدة العضوية. وظل التأرجح قائماً بين العقلانية والتجريبية ثم العقلانية الجديدة والتجريبية الجديدة. وتم نفس الشيء في الفن من الكلاسيكية إلى الرومانسية فإلى الكلاسيكية الجديدة إلى جانب الرومانسية الجديدة. ولم يعد هناك أصل يحكم الفرع. وظل الفرع متردداً بين عدة أصول لا يستقر على حال، حتى انتهى المشروع النهضوي الأوروبي إلى نوع من الشك الدائم دون يقين، والنسبية المستمرة دون الوصول إلى أي نوع من الإطلاق الممكن، واللا أدرية بعد أن تعب الوعي الأوروبي من البحث عن أصل، ثم العدمية المطلقة.. فلا يوجد شيء تمكن معرفته، وإن وُجد فلا تمكن معرفته بيقين، وإن أمكنت فهي يقين حسي تجريبي استقرائي. وتحولت النسبية في الوجود إلى النسبية في المعرفة، فالنسبية في الأخلاق. ولم يستطع الغرب أن يقيس على أصل بعد أن هدم كل الأصول، وأصبحت الفروع بلا أسس. قد يكون ذلك عنصر قوة، أي البحث الدائم عن اليقين دون وجود يقين مسبق. لكن لا يوجد بحث بلا افتراض، ولا تمكن معرفة الحقيقة سلفاً دون البحث عنها. والبحث ما هو إلا التبرير. لذلك قال «لسنج»: لو وضعوا البحث عن الحقيقة في يساري والحقيقة في يميني لاخترت يساري. وهي الوظيفة التي يؤديها التعالي في التوحيد، «كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة