عند المسلمين المؤمنين، الحديث عن الصوم يعني الحديث عن مدرسة إيمانية تربوية أخلاقية غايتها العظمى تقوى الله عز وجل وتهذيب النفس وتزكيتها، وتربيتها على الصبر ومكارم الأخلاق، من كرمٍ وإحساس بالفقراء والمحتاجين. وهو بمثابة دورة إيمانية مدتها شهر كامل، يتعلم خلاله الصائمُ الصبرَ والمصابرةَ ويستشعر آلام الحرمان ويعاني بؤس الحياة ويدرك خلالها أنه فرد من الأمة يعيش آلامها ويفرح لآمالها، وهي اعتبارات تتجاوز فكرة الجوع والعطش كصيغة متعلقة بهيئة الصيام.
وعلى الرغم من العادات الحميدة التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، فإن تغير الزمن والنفوس وضغوط نمط حياتنا الاستهلاكي، وكثرة تعقيدات الواقع المعاصر وتشعب علاقاته، يجعل بعض المسلمين يتناسون بعض تلك العادات، ولا يُدرِكون المغزى من الصيام، ولا يَفقهون مقاصده العظيمة.. فيجنحون إلى ارتكاب أفعال وسلوكيات تتنافى مع حُرمة هذا الشهر الفضيل، حيث تبدو الأسواق في أيام الشهر الكريم في ازدحام غير طبيعي، الأمر الذي يزيد من إسراف العائلات في الصرف على كل ما هو مرغوب وغير مرغوب خلال الشهر، مقابل تجلي جشع بعض التجار عبر استغلال إقبال الناس بزيادة أسعار سائر المواد الأساسية.
بعض هذه العادات و«الآفات» التي دخلت مجتمعاتنا، واستحكمت بالناس ليست من الصوم في شيء، ولا يمكن أن تدخل في إطاره، وما «التجويع الإلزامي» الذي يختاره المسلم المؤمن في شهر الصوم إلا نداء رباني له للاستشعار الدائم لحاجة الفقير، وتلك معان لا تنسجم مع ما نشاهده ونعايشه من بعض الفئات من تبذير وسفه وجشع. فشهر رمضان موسم للتراحم وصلة الأرحام والأحباب والأصدقاء في ظل الطاعة لا في ظل المعاصي، وليس طقساً من الطقوس يمر في احتفالية معينة في إطار زمني معين، وعليه يجب فهم الصوم في سياق معانيه السامية.
السهر العابث في المقاهي العامة و«الخيم» الرمضانية وتدخين الشيشة ولعب الورق واللهو شبه الماجن حتى الساعات الأولى من الصباح، مع ما يواكب ذلك من إسراف وبذخ على الولائم والعزائم قد يصل حد «السفه» أو «التباهي».. هي بعض المظاهر والعادات الدخيلة إلى حياتنا الرمضانية الليلية، ومعظمها يتنافى وروح هذا الشهر الذي هو شهر عبادة وعمل وإنتاج وترشيد للاستهلاك والنفقات. إنه من العبث أن يتم تحويل شهر رمضان في حياتنا إلى موسم سنوي للإسراف في التدخين، حيث تسجل التقارير أن العرب يستهلكون في رمضان من التبغ أكثر مما يستهلكون في أشهر السنة العادية، فضلاً عن فاتورة الفواكه المجففة والمكسرات في رمضان، والتي بلغت في إحدى الدول العربية ما يقارب مئة مليون دولار!
ومن المفارقات الغريبة، أنه فيما تؤكد الأرقام والإحصاءات أننا أكثر شعوب العالم استهلاكاً للطعام والشراب والملبس والترفيه، غير آبهين بارتفاع الأسعار أو اعتدالها، نجدنا نشكو من الغلاء الفاحش الذي استنزف كل ما في جيوبنا وجار على مدخراتنا، في الوقت الذي تسجل فينا أيضاً أعلى نسبة فقر في العالم! وكذلك تُسجَّل لنا أيضاً، وبلا فخر، واحدةٌ من أعلى نسب البدانة بين شعوب الأرض، رغم تعدد تحذيرات ونصائح أطباء التغذية وانتشار أطباء ومراكز علاج السمنة في كل بلادنا العربية. كل هذا، رغم أن الدين الحق أمرنا بالاعتدال في الطعام والشراب دون إسراف، ودون حرماننا من التمتع بنعم الله، مع التقيد بقاعدة قوله تعالى: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا»، فالإسراف في الطعام يدخل في إطار قوله تعالى: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»، وقوله: «وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»، وقوله: «ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون».
والإسراف يعني تبديد الموارد وإضاعة الثروات في ما لا يفيد، مما يعني تراجع معدلات الادخار وربما الاستدانة في بعض الأسر من أجل الوفاء بالالتزامات الحياتية ومعظمها استهلاكية، فترتبك ميزانية البيت ويؤدي ذلك كله إلى سلسلة من الآثار السيئة التي تتسبب في مشاكل اجتماعية واقتصادية.
العاقل من يغتنم الشهر الفضيل لإراحة المعدة -بيت الداء- التي تعمل أحد عشر شهراً دون انقطاع. والنهج النبوي يحتم علينا أن نفطر على شربة ماء أو تمرة ثم نؤدي صلواتنا. كذلك، من واجبنا أن نسأل أنفسنا عن الأسلوب الأمثل في التعامل مع الطعام والشراب صحياً واقتصادياً وأخلاقياً خلال رمضان وغيره لكي نخرج من دائرة «السفه الاستهلاكي» الذي أدْمنّاه في عالمنا العربي والإسلامي، رغم تزايد عدد الفقراء والعاطلين، وندرة الغذاء، وتراجع الخدمات وغيرها. من هنا، يتحتم علينا الاستمرار بالتوعية –غير الموسمية- بمخاطر التبذير والجشع و«السفه الاستهلاكي» التي لا تمت للصوم ولا للذائقة الأخلاقية ولا حتى للإنسانية بصلة، والعودة إلى الاستهلاك المتوازن المفيد للفرد والمجتمع والحالة الاقتصادية. ذلك أنه بقدر رشد الاستهلاك وكفاءة الإنفاق، تتحدد كفاءة وفاعلية الاقتصاد على المستوى الأسري وعلى المستوى العام للمجتمع.