شيئاً فشيئاً تتضح معالم جديدة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، واللتين تجران معهما العالم نحو هذه الحرب التي بدأت تترك آثارها على الأسواق وعلى النمو الاقتصادي العالمي ككل، لما لها من عواقب سلبية على حركة التجارة الدولية وعلى مستقبل استخدامات التقنيات الجديدة التي كانت حكراً على الولايات المتحدة من خلال شركاتها العملاقة التي سادت العالم من أقصاه إلى أقصاه، بما في ذلك شركات الدول التي لا تتمتع بعلاقات ودية مع واشنطن.
ملامح الحرب التجارية بدأت مع قدوم الرئيس ترامب للبيت الأبيض من خلال الرسوم والرسوم المضادة، وإعادة النظر في الاتفاقيات التجارية والانتقاد الحاد لمنظمة التجارة العالمية، إلا أنه مع مرور الوقت تتضح معالم أخرى أكثر أهمية وأكثر خطورة لهذه الحرب، إذ أن العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة أكثر تطوراً وأكثر تحدياً من خلال تشغيل أنظمة 5G فائقة السرعة ومتعددة الاستخدامات، والتي ستنقل البشرية إلى عصر جديد لم تعرفه من قبل.
يتزامن ذلك مع محاولات جادة من جانب الصين لكسر الاحتكار الأميركي في هذا الجانب والتي تعتبر المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، إذ حتى الاتحاد الأوروبي وروسيا لم يتمكنا من منافسة واشنطن في “5G”، وحدها بكين بدأت في بسط نفوذها في هذا المجال، بل إنها من خلال شركتها العملاقة «هواوي» حققت تقدماً ملحوظاً في تطوير الجيل الخامس بأسعار تنافسية، مما حدا بدول العالم، بما فيها البلدان المتقدمة، كألمانيا وبريطانيا إلى توقيع اتفاقيات لإدخال التقنية الصينية الجديدة إلى بلدانها، مما شكل تحدياً جدياً للهيمنة الأميركية.
أدى ذلك إلى تطور مثير في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والذي لم يعد يقتصر على التجارة التقليدية والرسوم الجمركية، وإنما تعداه إلى نمط جديد من الحرب التجارية يتعلق بالمستقبل للهيمنة على قطاع الاتصالات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فتسيير الحياة الاقتصادية والخدمات والتعليم والطب، بل وحتى الشؤون العسكرية والأمنية ستعتمد في الفترة القريبة القادمة على تقنيات الجيل الخامس.
يحمل ذلك في طياته جوانب عديدة يأتي في مقدمتها التجارة والأمن، وهما محورا الحرب التجارية الدائرة الآن بين أكبر اقتصادين عالميين، إذ أنه في هذين الجانبين المهمين لا تريد الولايات المتحدة أن ترى منافساً قوياً لها، خصوصاً أن هذا المنافس يستخدم وسائل التشغيل الأميركية والتي يمكن من خلالها أن يحقق مكاسب تجارية هائلة ويخترق الأنظمة الأمنية والعسكرية للبلدان الأخرى، مما أدى إلى أن تتخذ واشنطن إجراءات حازمة، وذلك بمحاولة منع شركاتها، «كغوغل وميكروسفت» من السماح لشركة «هواوي» العملاقة من استخدام أنظمتها التشغيلية في برامجها بعد ثلاثة أشهر من الآن، وهو ما يعني تعطيل عمل أجهرة «هواوي»، إلا إذا تمكنت الصين من تطوير أنظمة تشغيل بديلة كما هو متوقع، علماً بأن «هواوي» حققت العالم الماضي أرباحاً تقدر بـ 9 مليارات دولار، حيث تسعى «هواوي» إلى تقطيع تفاحة «آبل» وليس قضم قطعة منها فقط!
في الوقت نفسه ضغطت الإدارة الأميركية على حلفائها لإلغاء اتفاقياتها مع «هواوي»، وهو ما قامت به الشركات البريطانية واليابانية، وذلك لأسباب تجارية وأمنية، فدخول «هواوي» هذه الأسواق الأوروبية والآسيوية المتطورة يعني تحقيق مكاسب تجارية كبيرة للغاية، كما يعني اعتماداً متزايداً على الصين وتنافسياً قوياً على حساب الولايات المتحدة، حيث يتوقع أن تهيمن الصين في هذا الجانب بحلول عام 2022.
بالإضافة إلى هذه الجوانب التجارية المهمة والتي تحمل الكثير من التحديات، فإن الجوانب الأمنية قائمة وخطيرة تهدد الأمن السيبراني للدول، سواء من قبل الولايات المتحدة أو الصين، فقبل خمس سنوات اكتشفت عملية اختراق أميركية لهاتف المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، مما يعني أن هذه المخاطر قائمة باستمرار.
إذن يقف العالم أمام حرب تجارية غير تقليدية لا تقتصر على الجوانب والمكاسب التجارية فحسب، وإنما تمتد لجوانب أمنية وعسكرية واستراتيجية حساسة ومؤثرة في تحديد مراكز القوى العالمية وتحديد دور كل منها في رسم مستقبل العالم.