نجحت مجموعة من الأطباء في مستشفى أطفال بوسط العاصمة البريطانية لندن، في علاج مراهقة من عدوى قاتلة، وذلك بالاعتماد على فيروسات تهاجم البكتيريا المتسببة في العدوى، مما يعتبر اختراقاً واعداً في الاعتماد على هذه الكائنات المجهرية لعلاج حالات العدوى الناتجة عن البكتيريا، وخصوصاً البكتيريا المتمتعة بقدرة فائقة على مقاومة المضادات الحيوية.
وكانت المريضة البالغة من العمر 16 عاماً، تعاني من مرض وراثي، يعرف بالتليف الحوصلي (Cystic Fibrosis)، ينتج عنه تجمّع مخاط سميك في الرئتين، وأجزاء أخرى من الجسم مثل البنكرياس، والكبد، والكليتين، والأمعاء، مما يعيق قدرة المصاب على التنفس بشكل سليم، ويشكل مرتعاً خصباً للبكتيريا والجراثيم التي تتسبب في عدوى شديدة تهدد حياة المريض. ويتم علاج هذه الحالات عادةً بالاعتماد على المضادات الحيوية، والعلاج الطبيعي، وبعض الأدوية والعقاقير الطبية والوسائل الأخرى، إلا أنه كثيراً ما يلجأ الأطباء لخيار زراعة رئتين في الحالات الشديدة، بالإضافة إلى زراعة أعضاء أخرى، مثل الكبد والبنكرياس.
ويتطلب علاج مرضى التليف الحوصلي زراعة رئتين معاً، لأنه إذا ما تُركت الرئة الأخرى المصابة بالعدوى، فغالباً ما تنتقل العدوى إلى الرئة الجديدة. وحتى إذا ما تمت زراعة رئتين معاً، فيمكن لبكتيريا من داخل أو خارج الجسم أن تهاجم الرئتين الجديدتين، بناءً على أن المعتاد في حالات زراعة الأعضاء، تلقي المرضى أدوية مثبطة لجهاز المناعة بعد الزراعة، كي لا يهاجم الأعضاء الجديدة كونها أجساماً غريبة على جسم المريض، وهو ما يعيق الجسم أيضاً عن مكافحة البكتيريا المسببة للعدوى.
وهذا بالضبط ما حدث مع الفتاة البريطانية، فنتيجة إصابتها بالتليف الحوصلي، تمت زراعة رئتين جديدتين لها، إلا أن البكتيريا المختبئة في الجسم سرعان ما هاجمت الرئتين الجديدتين، وعجز الأطباء عن مساعدتها باستخدام أنواع عديدة من المضادات الحيوية بسبب مقاومة البكتيريا لها، بالإضافة إلى التحجيم والتثبيط المتعمد لجهاز المناعة. وأمام هذا الوضع، أبلغ أطباء المستشفى البريطاني الشهير (Great Ormond Street Hospital) الأبوين أن فرصة نجاة ابنتهما لا تزيد على 1 في المئة، أي أنها معدومة تقريباً، ونصحوهما بأن يعودا بها للمنزل، لتقضي أيامها الأخيرة بين أهلها وأصدقائها.
إلا أن الأم رفضت أن تستسلم، وشرعت تبحث عن علاج بديل، ينقذ ابنتها من هذا القدر المحتوم، إلى أن عثرت على أسلوب علاجي حديث جداً، يعتمد على نوع خاص من الفيروسات (Bacteriophage)، والذي يمكن ترجمة اسمه للفيروس الآكل أو القاتل للبكتيريا.
والفيروسات هي كائنات بسيطة جداً، بل يمكن القول إنها كائنات متناهية في البساطة والتركيب، فهي لا تزيد على كونها جزءاً صغيراً جداً من الحمض الأميني النووي المغلف بغطاء من البروتين. وينظر البعض للفيروسات على أنها مرحلة بين الجماد والحياة، بسبب عجزها عن التكاثر أو القيام بالعمليات الحيوية الأساسية، مثل توليد وتخزين الطاقة، دون الاعتماد على معيل (بكتيريا أو خلية) للقيام بكل ذلك، فالفيروسات خارج عائلها لا تتنفس ولا تشرب ولا تأكل ولا تتحرك ولا تتكاثر، مثلها في ذلك مثل الجماد.
وكما تهاجم الفيروسات الخلايا البشرية، والحيوانية، والنباتية، تهاجم أيضاً الخلايا البكتيرية، لتغزوها وتقضي عليها. هذه القدرة التي تتمتع بها بعض أنواع الفيروسات، استغلها الأطباء البريطانيون لعلاج البكتيريا التي كانت تهدد حياة الفتاة، عملاً بمبدأ أن عدو عدوي هو صديقي. وبالنظر إلى أن مرضى جميع الحالات المشابهة، قضوا في النهاية نحبهم دون استثناء، يعتبر ما تم إنجازه هنا سابقة طبية واختراقاً واعداً بكل المقاييس.
وتحقق ذلك النجاح، من خلال التعاون بين المستشفى البريطاني، وبروفيسور في علم الفيروسات بمعهد «هوارد هيوز» الطبي بالولايات المتحدة (Howard Hughes Medical Institute)، وهو صاحب أكبر تشكيلة في العالم من أصناف وأجناس الفيروسات القاتلة للبكتيريا أو «البكتيروفاج». فليست كل أجناس هذا النوع من الفيروسات قادرة على قتل جميع أجناس وأنواع البكتيريا المعدية، بل يجب مطابقة جنس الفيروس المستخدم مع جنس أو نوع البكتيريا المستهدفة، تماماً كما يحدث عند اختيار نوع المضاد الحيوي المناسب لنوع البكتيريا المستهدفة، من خلال التحليل المخبري المعروف بمزرعة البكتيريا. وهذه النقطة بالتحديد، ستكون مجالاً واسعاً للأبحاث والدراسات الطبية في المستقبل القريب، لتتوفر حينها للطب الحديث ترسانة جديدة من الأسلحة الطبيعية، والفعالة، ضد أنواع البكتيريا الضارة، والتي تطورت وراثياً، وبشكل تلقائي، خلال مئات الملايين من السنين، ولا تستطيع البكتيريا توليد مقاومة ضدها بنفس السرعة التي نجحت في تطوير مقاومة ضد المضادات الحيوية المستخدمة في وقتنا الحالي.