لا تزال الولايات المتحدة الأميركية تمارس سياستها التقليدية، متمثلةً في صناعة العدو، لذا من الطبيعي أن تحضر هذه السياسة بشكل دائم في سياق محاولات تفسير أداء واشنطن في منطقتنا، وأيضاً لمعرفة آليات تحركها داخلياً وخارجياً.
المتابع لسياسة الولايات المتحدة يدرك أن لديها آليات متعددة لتحريك عجلة الاقتصاد، ورفد الشركات الكبرى بفرص العمل والنمو على المستوى العالمي، حيث يصعب عليها أحياناً التعايش مع حالات الهدوء والثبات في السياسة الدولية، لأن الاقتصاد والسياسة لديها بحاجة دائمة لصناعة العدو، لتحفيز قطاعات التشغيل والصناعة، ولاستغلال ذلك في المنافسات السياسية والانتخابية الداخلية. وهذا الأمر لا يتعلق بشركات تصنيع السلاح فقط، بل بكل الشركات المؤثرة في المال والأعمال، وجميعها على صلة بتمويل الحملات الانتخابية.
هذا النهج الأميركي، القائم على شحذ الهمم والطاقات وإقرار الميزانيات وجلب التمويل، أصبح معروفاً وبالتالي يدرك المراقبون للشأن الأميركي أن صياغة السياسة الدفاعية والاقتصادية تتم على ضوء التحديات التي لا تستغني أميركا عن إيجادها واختراعها أحياناً.
لدينا مؤشرات سابقة على هذا التوجه الأميركي، وخاصة في الشرق الأوسط، حيث ساهمت أميركا في ترك العراق خلال عهد صدام حسين ينتفخ ويتعملق عسكرياً، ثم تركته يثق بقوته بالقرب من القوة الإيرانية الناشئة بطاقتها الأيديولوجية الانتحارية، القائمة على التلهف لتصدير أفكار ثورة الخميني، وخاصةً أن إيران قررت البدء باختراق العراق الذي كان دولة علمانية لم تسمح لخرافات الملالي بالتأثير على مجتمعها آنذاك.
كما سمحت واشنطن للعراق بتزويد جيشه بأحدث الأسلحة، فكان العراق عملياً أحد نماذج صناعة الولايات المتحدة للعدو وتربيته ورعايته، إلى أن يحين وقت الانقضاض عليه واستغلاله، للخروج بمكاسب سياسية واقتصادية، ولتأكيد مدى قدرة أميركا على سحق أي تهديد خارجي حتى ولو كانت هي مَن صنعته أو سمحت له بالنمو.
هذه هي المدرسة الأميركية التقليدية القائمة على صناعة العدو، من أجل فرض الهيمنة على الدول الأخرى والحصول على مكاسب اقتصادية وإثبات القدرة على البطش وترسيخ صورة الأميركي الخارق الذي يهزم الأعداء.
وتمثل هذه السياسة وسيلة لتعزيز مبيعات الشركات الأميركية، من الأسلحة إلى الخدمات الأمنية واللوجستية والمقاولات، ما يحقق لأميركا فرصة إيجاد أسواق دولية لمنتجاتها وخدماتها.
إن ضخامة اقتصاد أميركا تجعل دوائر القرار تضع اعتبارات هامة لدور الشركات وبيوت المال، ولا يمكن لصناع القرار واللوبيات الانتخابية القفز على مصالح أميركا الاقتصادية، لأن هذا المحور يأتي في المقدمة، والجميع يعمل تحت مظلة الضغوط الاقتصادية، ولو بصناعة الحروب الخارجية وتوفير أسبابها ومبرراتها. وبالتأكيد فإن نفوذ الشركات العملاقة يشكل ضغطاً على الحكومة الأميركية التي تعمل بدورها على خلق التوترات والتحكم بخيوطها لتحويلها إلى فرص لجلب المكاسب مع الوقت.
البعض يشبّه تفاعلات السياسة الداخلية الأميركية بحوض السباحة، إذا تركت ماءه من دون حركة يردك ويتعفّن، وكذلك الحال مع القطاع التشغيلي في أميركا الذي يبقى بحاجة إلى فرص لرفع قيمة أسهم شركاته لتحريك الاقتصاد وتوفير فرص العمل وزيادة الأرباح. وتكتمل دائرة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة بالتكامل بين الأداء السياسي لصنّاع القرار والجشع المالي للشركات.
وكما جعلت أميركا من العراق بلداً مشاغباً عسكرياً، فورّطته في الحرب مع إيران ثم في دخول الكويت، ثم في التهديد الذي أطلقه صدام حسين بحرق نصف إسرائيل، فقد جعلته يدفع ثمن مغامراته وتهديداته. وبالفعل بعد حرب تحرير الكويت تم إدخال العراق في مرحلة الحصار التي مهدت لاحتلاله والقضاء على قوته.