القرآن الكريم مليء بالعبر والحكم وإنا لنا لعبرة في قصة يوسف عليه السلام، والمتتبع لمعانيها يجد بها دروسا عديدة في الصفح. ولكن ما سبب كل هذا الحقد والغيرة على يوسف عليه السلام؟ وكيف يمكن للحقد والغيرة أن يتحولا إلى انتقام قاتل؟ وكيف انتهت القصة بالصفح والمغفرة؟
يجب أولا التفريق في المعنى بين كل من العفو والصفح والمغفرة. العفو: هو التجاوز عن العقوبة ولكن يظل ما اقترفه من ذنب بحق الآخرين قائم في النفس البشرية. فالعافي يقوم بتذكير المعفو عنه بأخطائه حتى لا يعود إليها أو أن يمن عليه بالعفو. أما الصفح: هو التجاوز عن العقوبة ولكن لا يذكر المعفو عنه بالأخطاء ولا يمن عليه بالعفو. فالصفح درجة أسمى وأعلى منزلة من العفو. أما المغفرة هي درجة أسمى من الصفح لأنها تشمل على إسقاط العقوبة واللوم والمؤاخذة عن الذنب وتزيد عن الصفح أنها تجب ثواب المغفور له.
يوضح الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف بأن الحقد تسرب إلى نفوس أخوة يوسف، بعدما سمعوا أبيهم النبي يعقوب مخاطبا يوسف. «قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا» فعرفوا أن أخاهم سيكون له شأن عظيم وأن الله فضله عليهم، وهو لم يتعد السادسة من العمر. فوسوس لهم الشيطان فقالوا «ليوسف وأخيه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة» بعدما نشأت تلك البغيضة والحقد في قلوبهم، دبروا مكيدة لقتل يوسف دون أخيه بنيامين.
لقد أفسد عليهم حقدهم وغيرتهم من يوسف تدبير خطتهم. لم تدرس الطريقة المثلى ليتخلصوا من نبي الله يوسف، وانتهى الأمر بإلقائه في الجب. وأفسد عليهم حقدهم حبكة الجريمة، فقد جاؤوا بقميص غير ممزق بدم مكذوب. وهنا انكشف أمرهم وكانت ردة فعل يعقوب عليه السلام أنه«قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل» أي صبراً لا شكاية فيه إلا لله على ما اتفقتم عليه حتى يفرج الله الأمر من عنده. ومرة أخرى ذكرت «صبر جميل حينما أخذ يوسف أخاه بنيامين بحجة سرقة صواع الملك. ولكن سيدنا يعقوب عليه السلام ترجى الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة يوسف بنيامين وروبيل وقال «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ? عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا»، وهذا القول يدل على إيمان النبي يعقوب بالله تعالى وحسن ظنه به.
لم يتمالك يوسف حزنه أمام أخوته حينما وصفوا حال أبيهم وحزنه على فقد ابنه بنيامين ويوسف من قبل فرفع التاج فظهرت الشامة على جبهته فـ(قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) فقالوا في دهشه: أأنت يوسف! وبعد التعرف إليه، اعترفوا أنهم كانوا خاطئين. وبمجرد إقرارهم بذنبهم صفح عنهم يوسف عليه السلام ودعا لهم في قوله: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين). وأقروا مرة أخرى بذنبهم أمام أبيهم يعقوب عليه السلام (إنا كنا خطئين) وكانت ردة فعله أنه قال:«سوف أستغفر لكم». فالوعد باستخدام كلمة «سوف» أي أنه سيستغفر لهم وقت السحر حتى تقبل استجابة الدعاء.
المتأمل لأقوال سيدنا يوسف مع أخوته يجدها تنم عن صفح تام حتى أنه لم يلمح أو يصرح بالذنب الذي اقترفوه في حقه عندما قال:«وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو بعدما نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي، ولم يقل وقد أحسن بي ربي إذا أخرجني من الجب. لأن ذكر مسألة الجب تذكير صريح من يوسف لأخوته بما اقترفوه في حقه، أي أن قلبه مازال يحمل شيئا تجاه أخوته. فوضع يوسف عليه السلام الخطيئة بكاملها على الشيطان، حتى لا يشعرهم بأنهم أخطؤوا أو أذنبوا. فنحن نفتقد أسلوب التعامل مع من يخطئون في حقنا، فإذا أصبحت يوما ما في موقف القوة، كيف ستعامل الآخر؟ هل تعفو أم تصفح وتطلب المغفرة له؟