يمكن تشبيه الولايات المتحدة بالفيل الضخم الذي يهز كل ما حوله عندما يتحرك. والفيل الأميركي يستعد لانتخابات رئاسية قد تكون الأكثر سخونة. ومن يتابع الأحداث والتجاذبات العالمية ذات الصلة بالدور الأميركي، يلاحظ بداية ظهور أعراض الاستعدادات المبكرة للانتخابات القادمة، رغم أن موعدها في نوفمبر 2020، أي بعد عام ونصف. إلا أن ترامب سيكون مضطراً لعدم المراهنة على أنه المرشح الذي يدخل السباق من داخل البيت الأبيض، خاصة أن فترته الرئاسية الأولى لم تمر بسهولة، في ظل حرب إعلامية شرسة، إلى درجة انضمام مشاهير ونجوم هوليوود إلى قائمة من ينتقدونه ويحصون أخطاءه.
صحيح أن كل الدورات الانتخابية الأميركية تلقي بظلالها على العالم مع كل منافسة جديدة، لكن انتخابات العام القادم تبدو أكثر شراسة، لأن ترامب يواجه خلالها منافسيه من أرضية تعيد للخبرة السياسية مجدها وألقها، بعد أن عاشت أميركا فترة رئيس دخل البيت الأبيض بمزاج لا يحب سماع أصوات المعارضين. لذلك يرغب ترامب في أن تخضع إيران للضغوط والعقوبات وأن يجرها إلى عقد اتفاق نووي جديد، يختم به فترته الرئاسية الأولى، محاولاً من خلال هذا الإنجاز - إذا ما تحقق- أن يفتح صفحة جديدة مع المشككين في أسلوب إداراته للأزمات.
وكما يحدث في كل موسم انتخابي أميركي، تتحول الانتخابات في بلاد العم سام إلى عبء على العالم، لأن المواقف والتحركات الخارجية لأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في عالمنا، تصبح مرهونة بحصد نقاط وتحقيق تقدم في استطلاعات الرأي العام، ومغازلة اللوبيات والقوى المؤثرة على أصوات الناخبين. وهذا ما يجري الآن استباقاً لجولة انتخابات يأمل ترامب أن يفوز بها ليحكم دورة ثانية وأخيرة، لذا أصبحت تحركاته وتصريحاته كلها معنية بالتكيف مع مؤشرات ومتطلبات السباق الرئاسي القادم. والأمر ينطبق كذلك على بقية النخب الأميركية في أوساط الجمهوريين والديمقراطيين.
وفي واجهة الأحداث الحيوية التي تخضع لحسابات الانتخابات، الموقفُ من إيران ومن تصرفاتها العدائية، وخاصة أن عقوبات أميركية متتالية في عهد ترامب طالتها، بغية إخضاعها لتوقيع اتفاق جديد بشأن ملفها النووي. غير أن موسم الانتخابات يقودنا إلى توصيف الموقف الأميركي المنقسم حالياً تجاه اتخاذ إجراءات ردع حاسمة ضد إيران بأنه موقف يخضع لحسابات الربح والخسارة في الانتخابات، والتي يجري الإعداد لها على نار ساخنة هذه المرة.
ورغم تورط إيران عبر وكلائها في المنطقة في استهداف أمن الطاقة والملاحة الدولية وتهديد أمن واستقرار دول وشعوب المنطقة، فإن المراوحة الأميركية لا زالت تنقسم بين انتهاج عقوبات قاسية ضد إيران، مقابل دعوتها للحوار مجدداً حول برنامجها النووي، لكن على وقع تحريك حاملة طائرات وقاذفات B52 إلى المنطقة. وبذلك لم تعد الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط تقتصر على القضية الفلسطينية، خاصة مع انهيار خلايا الإرهاب بعد إنهاء سيطرة «داعش» على جيوبه الأخيرة في العراق وسوريا. مما يجعل الأنظار تتركز على تغول إيران عبر وكلائها الذين تستخدمهم، وخصوصاً بعد محاولة تخريب السفن الأربع بالقرب من ميناء الفجيرة واستهداف أنابيب النفط في المملكة العربية السعودية.
لكن ما يزرع الشكوك تجاه مدى جدية أميركا في معاقبة إيران ليس الانتخابات الحالية فقط، بل وجود رصيد لا بأس به من التفاوض السري بين الجانبين في كافة العهود، لأن إيران تتحرك بوجهين، وما يهمها هو بقاء الملالي على رأس السلطة، وأن يظل خطاب العداء لأميركا قابلاً للتسويق داخلياً، مع الاستعداد لعقد صفقات تستغل جشع الأميركان في المواسم الانتخابية لكسب النقاط والأصوات.
لذلك تبدو التحركات الأميركية حاملة لأكثر من وجه وقناع، ولا يمكنها أن تتجاهل استحقاقات الانتخابات وأوراقها الضاغطة على الداخل الأميركي، وبخاصة أن الديمقراطيين لديهم أوراقهم التي يلعبون بها ضد ترامب. حتى فيما يخص الصدام مع إيران، يستطيع منافسوه حرمانه من توقع جدوى الحرب وأيضاً جدوى السلام، ليبقى في المنطقة الرمادية، وإن كان ترامب محاطاً بمسؤولين يؤيدون التدخل العسكري ضد إيران، وعلى رأسهم جون بولتون مستشار الأمن القومي.