خلال الأسبوع الماضي، ألقيت كلمة أمام اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول «المستوطنات الإسرائيلية». ولأنني أدركت أن المتحدثين والخبراء والدبلوماسيين سيتحدثون عن عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية، وتأثيراتها الاقتصادية والحقوقية على الشعب الفلسطيني، والتصميم الواضح لمنظومة الاستيطان بأسرها الرامي إلى القضاء على إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، فقد ركّزت في تصريحاتي على دور الحكومة الأميركية في تمكين المستوطنات الإسرائيلية وتواطئها في انتهاك إسرائيل للقانون الدولي. وقد تبدو هذه لغة قاسية، لكن عندما لا يتم فعل شيء من أجل وقف نشاط ينتهك القانون الدولي، ويساهم في انتهاكات حقوق الإنسان، ويمثل خطراً واضحاً على السلام، فلا أعرف أية طريقة أخرى لوصف الأفعال الأميركية.
وخلال الأعوام الخمسين الماضية، كان هناك تآكل مستمر في السياسات الأميركية تجاه السلوكيات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. وتحوّلت مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه المستوطنات الإسرائيلية من الخنوع السلبي إلى القبول الصريح. وحتى عندما أعرب بعض الرؤساء عن معارضتهم للمستوطنات الإسرائيلية، لم يتخذوا موقفاً صارماً لوقفها. وكانت النتيجة أن تعداد سكان المستوطنات في الأراضي المحتلة نما من 50 ألفاً أثناء إدارة جيمي كارتر إلى 620 ألف مستوطن إسرائيلي في الوقت الراهن. ونمو المستوطنات والمستوطنين مستمرٌّ مثل تقوّض السياسات الأميركية الرسمية حول هذه القضية المحورية.
وفي عام 1976، كانت إدارة «فورد» ثابتة في تأييدها لتطبيق اتفاقات جنيف الرابعة، والتي تحكم سلوكيات السلطة المحتلة لفلسطين. وكان الرئيس جيمي كارتر حازماً أيضاً في هذه القضية، بل وسعى إلى الحصول على رأي قانوني رسمي من المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية الذي قرّر أن المستوطنات كانت في الحقيقة تنتهك اتفاقات جنيف الرابعة.
غير أن التزام الولايات المتحدة بالقانون الدولي فيما يتعلق بالمستوطنات انتهى في عهد الرئيس رونالد ريجان. فلم يكن «ريجان» دارساً للقانون أو السياسة، وعندما تناول الأمور المعقدة في الحوارات الصحفية، كان في بعض الأحيان يدلي بتصريحات محرجة استناداً إلى مجموعة من نقاط الحديث السياسية الغامضة. وأبرز الأمثلة على ذلك حدثت في أسبوعه الأول في المنصب، فعندما سئل عن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي المزمع، قال: «فيما يتعلق بالضفة الغربية، أعتقد أن المستوطنات هناك ليست قانونية.. ليست كذلك بموجب قرار الأمم المتحدة الذي يترك الضفة الغربية مفتوحة لكل الناس من العرب والإسرائيليين على السواء».
وعلى رغم من غموض هذا التصريح، فإنه أصبح سياسة أميركية. وأثناء بقية فترته الرئاسية، تعرّج ريجان بين مخالفة موقف كارتر بشأن عدم شرعية المستوطنات ووصْفها بأنها «تقوض ثقة العرب في رغبة إسرائيل في إبرام اتفاق سلام». وفي نهاية المطاف، أحدث ريجان ضرراً حقيقياً بالسياسة الأميركية. وبعد ذلك، لم يشر رئيس أميركي إلى المستوطنات بأنها غير شرعية.
وأما جورج بوش الأب، خليفة ريجان، فقد عارض بشدة المستوطنات الإسرائيلية، لدرجة أنه منع تقديم ضمانات قروض لإسرائيل بعد أن أيدها الكونجرس. وعلى رغم من ذلك، لم يصف بوش المستوطنات أبداً بأنها غير شرعية، وإنما وصفها بأنها «عقبات أمام تحقيق السلام».
وأما الرئيس كلينتون، الذي ورث اتفاقات أوسلو، فواصل نهجاً مماثلاً تجاه المستوطنات. فلم يصفها بأنها غير شرعية، وإنما زعم أن استمرار بنائها ينتهك «عملية أوسلو»، التي حظرت على الطرفين اتخاذ «إجراءات أحادية الجانب» يمكن أن تحول دون مفاوضات الحلّ النهائي.
وفي حين أعرب الرئيس جورج بوش الابن عن قلقه من التوسع الاستيطاني، فإن إدارته اتخذت مواقف مكنت من زيادته. وعلى رغم من تصديقه على «خريطة الطريق»، التي دعت إسرائيل إلى تفكيك كافة المراكز الاستيطانية المقامة بعد مارس 2001 وتجميد النشاط الاستيطاني، فإن بوش أرسل خطاباً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك «آرييل شارون» في أبريل 2004، أكد فيه أنه «في ضوء الوقائع الجديدة على الأرض، بما في ذلك المراكز السكانية الإسرائيلية الكبرى القائمة بالفعل، فإنه من غير الواقعي توقع أن هذه المستوطنات ستزال بعد مفاوضات الوضع النهائي». وباختصار، ما كان غير شرعي أصبح مقبولاً باعتباره «واقعاً جديداً».
وكرر الرئيس باراك أوباما الجهود الرامية لإنهاء التوسع الاستيطاني، وفي خطابه في جامعة القاهرة عام 2009، قال: «إن الولايات المتحدة لا تقبل بشرعية المستوطنات الإسرائيلية المستمرة، وبناؤها ينتهك الاتفاقات السابقة ويقوض جهود تحقيق السلام». لكن شيئاً لم يتغير، وفي نهائية المطاف بدأ المسؤولون في إدارة أوباما التحدث عن المستوطنات الموجودة باعتبارها «أمراً واقعاً»، وفي النهاية سيتم ضمها في مقابل عملية تبادل للأراضي.
ثم جاء الرئيس دونالد ترامب فوجّه ضربة قاضية للموقف الأميركي بشأن المستوطنات. ففي ظل قيادته، لم تعد المستوطنات قانونية فحسب، وإنما لم تعد أيضاً «عقبة أمام السلام». وليست هناك طريقة أخرى لوصف هذا السلوك سوى أن أميركا باتت متواطئة مع إسرائيل في انتهاكات القانون الدولي.
وعلى المجتمع الدولي أن يضع استراتيجية جديدة للتعامل مع هذا الأمر المحوري. فتمرير قرار آخر في الجمعية العامة للأمم المتحدة يحتج على السياسات الإسرائيلية لن يحقق شيئاً، ولا مزيد من الخطابات التي تؤكد على أهمية تطبيق القانون الدولي.
وفي هذه المرحلة، لا بد من وضع استراتيجية دولية لمواجهة إسرائيل والدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة. فحقوق الإنسان في الدولة الفلسطينية المستضعفة ليست وحدها هي المعرضة للخطر، وإنما الخطر يطال أيضاً بقاء القانون الدولي ونسيج النظام العالمي المتحضر.