شعار «الرياح الشرقية تغلب الغربية» يتحقق الآن بشكل لم يخطر حتى للزعيم الصيني «ماو» الذي صاغه منتصف القرن الماضي. فالشرق الآن يشتري الغرب: صينيون، وروس، وعرب، وهنود، وباكستانيون، وأوزبكستانيون وكازاخيون، وطاجكستانيون، أفراد وحكومات، يشترون كل شيء في الغرب، من نوادي فرق كرة القدم الإنجليزية المشهورة حتى أشهر المخازن «هارودز»، وهيمليز»، ويشترون صحفاً عالمية مثل «إندبندنت» و«إيفيننغ ستار»، وأعرق فنادق أميركا مثل «والدروف أستوريا»، و«بلازا».. اقتناها صينيون، وروس، وعرب.. كما اشتروا أشهر ستوديوهات هوليود مثل منتج فيلم «الحديقة الجوراسية»، واشتروا 14 ألف دار عرض سينمائية في أوروبا، وأميركا، وأستراليا. والصينيون الذين ابتكروا لعبة كرة القدم قبل الميلاد، ولم يعرفها الإنجليز إلاّ في القرن التاسع عشر، اشتروا الآن نواديها البريطانية المشهورة مثل «آستون فيلا»، و«ويست برومويتش»، و«وولفرهامبتن». واشتروا أيضاً عملاقي كرة القدم الإيطالية «سانسيرو ستاديون» و«ميلان». ومتحف «اللوفر» الفرنسي، افتتح الإماراتيون نظيره «اللوفر -أبوظبي»، ومتحف «فكتوريا آند ألبرت» الجديد، ليس في لندن، بل في «شينشين» بالصين، وأجمل أعمال عملاقيْ العمارة العالمية المعاصرة، زهاء حديد وأستاذها «ريم كولهاس»، أقيمت في أبوظبي وموسكو والصين.
و«تمتلك الدول العربية وروسيا وآسيا الوسطى 70% من احتياطيات النفط العالمية و65% من احتياطيات الغاز الطبيعي». هذه تقديرات شركة النفط البريطانية B، فيما تقدر وزارة الزراعة والحبوب الأميركية نصف الحبوب في العالم تنتجها بلدان المنطقة الممتدة ما بين البحر المتوسط والمحيط الهادي: روسيا، وتركيا، وأوكرانيا، وكازاخستان، والهند، والصين، وباكستان. وإذا أضفنا إليها بلدان شرق وجنوب شرق آسيا، ماينمار، وفيتنام، وتايلند، وإندونيسيا، تقفز النسبة إلى 85% من المنتوج العالمي من الحبوب. وعند الأخذ بالحسبان العناصر المعدنية النادرة، التي تلعب دوراً أساسياً في صناعة أشباه الموصلات، المستخدمة في الصناعات الإلكترونية، نجد روسيا والصين تملكان لوحدهما ثلاثة أرباع إنتاجها العالمي، وتملكان لوحدهما أيضاً 80% من «الأتربة النادرة» مثل «أوتريوم» و«ديسبروسيم» و«ربيوم» الأساسية في صناعة البطاريات، والمحركات، وأجهزة الكومبيوتر المكتبية. ويقول «بيتر فرانكوبان»، أستاذ التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد: «فيما تتحدث الدراسات المستقبلية عن عالم مثير ينشئه العقل الاصطناعي والمعطيات الكبيرة والروبوتات.. يغير كليةً كيف نعيش، فالقلة يفكرون ويتساءلون: من أين تأتي المواد التي يتوقف عليها عالم «الرقميات»؟ وما الذي يحدث إذا اختفت تجهيزاتها أو استخدمت كسلاح تجاري أو سياسي من قبل روسيا والصين اللتين تحتكران تقريباً إنتاجها العالمي؟».
والشرق يشتري الغرب ليس لقاءَ ثرواته الطبيعية فحسب، بل مهاراته أيضاً، والتي فتحت عالماً جديداً بالكامل. فالصين شرعت منذ عام 1980 بانتشال 800 مليون صيني من وهدة الفقر، وجعلتهم قوة عاملة ماهرة اشترى أحد أثريائها أخيراً 3000 هكتار من أراضي وسط فرنسا لإنتاج طحين لصنع المعجنات الفرنسية للصينيين، واقتنى لأجلهم أيضاً مزارع الكروم الفرنسية ذات الجودة العالية.
ويذكر «فرانكوبان» في كتابه «طرق الحرير الجديدة» أن مركز الثقل الاقتصادي العالمي انتقل إلى الشرق، حيث قفز 500 مرة إنفاق مسافري الصين إلى الخارج، والذي كان يبلغ 500 مليون دولار عام 1990 فأصبح 250 مليار دولار عام 2017، وهو ضعفا إنفاق الأميركيين.
وتؤدي زيادة طلب الصينيين إلى أزمات اقتصادية لا تخطر على البال، مثل «أزمة الحمير» العالمية، وسببها زيادة طلب الصينيين الذين يستخرجون من جلود الحمير مادة «إيجياو»، والتي منها ينتجون عقاقير شعبية لعلاج الآلام والأكزيما، وللوقاية من السرطان وتحسين النشاط البدني. وأدى الطلب العالي على الحمير إلى نقص أعدادها بمقدار النصف في الصين، وتضاعف أسعارها أربع مرات، وزيادة إنتاجها في طاجيكستان وبلدان أفريقية عدة، حيث نشأت أسواق سوداء لتجارة الحمير. وهذه ليست أخباراً جيدةً للحمير وللاقتصادات التي تساهم فيها الحمير في الإنتاج الزراعي الحيواني.