ألغى المجلس الدستوري التركي نتائج الانتخابات البلدية لمدينة إسطنبول، والتي فازت بها المعارضة بشخص أوغلو. وذلك بالطلب المُلحّ من حزب أردوغان
«العدالة والتنمية». الغرابة في هذا الأمر أن السلطة الديكتاتورية هي التي تتهم خصومها بالتزوير، وقد اعتدنا أن يكون العكس: أن تزوّر السلطة الانتخابات ويقدم المعارضون المرشحون الطعون ويرفعوا أصواتهم معلنين عمليات التزوير.
فقد اجترح أردوغان ظاهرة جديدة قد يكون لها سابقة. كوسائل الإعلام في قبضته، وكذلك اللجان المشرفة على عمليات التصويت وحتى القضاة والقوى الأمنية والجيش. وفي منظوره أن الشعب أيضاً في قبضته. أعيد إفراز الأصوات مرتين وفي كلتيهما تؤكد النتائج فوز أوغلو وكان السلطان يُشكك بكل عملية لا تُعلن هزيمة المعارضة ولو تكررت هذه العمليات ربما 10 مرات لما حاد الديكتاتور عن موقفه كأنها كوميديا هنا وتراجيديا هناك بطلها من بنى لنفسه قصراً منيفاً من ثلاثة آلاف غرفة، قصر السلطنة القديم بحجارة جديدة أو الأحرى حلم السلطنة السالف بمخيلةٍ مستحدثة ومخترقة بهلوسات الشعور بالعظمة والنرجسية والميغالومانية أو هذيان الجنون بالعظمة. فأردوغان في نزوعه الجامح إلى ذاتية مُطلقة، لا يريد أن يصدّق أن حزبه- أي هو- هُزم في إسطنبول، حيث بدأ صعوده السياسي والشعبي المستند إلى شعبوية قومية عثمانية متطرفة، وإلى إثارة المشاعر الماضية بأمجادها أيام العثمانيين التي تدغدغ نفوس المواطنين. إنه رجل الماضي يريد أن يرجع بلاده وناسه إلى حجارة قصوره وسلطته. فهو السلطان الجديد كما بوتين هو القيصر، يحاول تعويض أفكاره الهشة بـ«يوتوبيات» من ظلال أزمنةٍ غابرة. أو فلنقل بهويةٍ ترى الأمور من وجهة واحدة أي وجهةٍ ثابتة جامدة، (أوليست هذه هي الشعبوية بالذات؟). وهنا ينضم أردوغان إلى مواكب هؤلاء الشعبويين الذين يدمرون الديمقراطية بالديمقراطية، والقومية المنفتحة بقومية مغلقة، ويطمسون المستقبل بغبار السابق، ويمارسون الكذب على مواطنيهم ويُزيّفون الوقائع والمعلومات وحتى التاريخ. كأنها مضامين الحاضر الأجوف المعبّأ بالأفكار الجاهزة التي قد يبتلعها الناس من دون تدقيقها أو مراجعتها: نزع الحس العقلاني النقدي في السياسة.
وهنا نستذكر في هذا الإطار الأردوغاني محترفين في هذه اللعبة مثل: فيكتور أوربان في المجر الذي لا يرى في الديمقراطية سوى الخراب ويُمارس الدكتاتورية كبديلٍ موضوعي. وفي فرنسا يميناً ويساراً هناك من يلتقوه في هذه الشعبوية: مارين لوبان (في اليمين) وميلانشون (من اليسار) وفانكلكروت في الوسط وهم كل من موقعه يُمارس شعبوية معلنة مؤسسة على الكراهية ورفض الديمقراطية والتنوير والتسامح وحقوق الإنسان ونفي الآخر (كل من ليس من رأيي مرفوض) من دون أن ننسى استخدام ورقة المهاجرين والمسلمين في فرنسا لزرع الخوف في قلوب الفرنسيين: المسلمون والعرب يهددون هوية فرنسا وأسلوب عيشها وماضيها وعاداتها وتقاليدها. بل وصل الأمر بهم كأردوغان، إلى الالتزام بالانعزالية القومية العمياء: رفض الاتحاد الأوروبي وكل ما من شأنه أن يكون جسراً للتواصل بين الشعوب.
وهل ننسى بوتين وتقسيم أوكرانيا وفصل القرم بالقوة عنها بذريعة عنصرية لغوية. (اللغة في ذاتها باتت عامل انفصال وعداء).
أردوغان طائر يغرد داخل سربه اليوم، ديكتاتورية أحادية، ألغى الانتخابات التي خسرها ليعيدها وفي ظنه أن المعارضة المنتصرة ستعزف عن خوضها. لكنها خيبت آماله وأعلنت أنها ترد على التحدي في إسطنبول: ليس من باب المصلحة بل من باب إثبات أن حاكم القصر السلطاني الذي سيعمد إلى كل الوسائل لربح المعركة وفي ظننا أنه سيبوء بالفشل بل ونعتقد أن أردوغان بإلغائه الانتخابات، قد أهان ليس فقط الذين انتُخبوا وفازوا، بل كل الشعب التركي. فهو شكك بإرادتهم وخان خياراتهم، وهذا ما سيشكل ردة فعلٍ عند هؤلاء الناس ضده ثأراً لقراراتهم وإيماناً بحرية قرارهم.