يعرض تلفزيون أبوظبي في رمضان الحالي مسلسل «مقامات العشق». وقد يكون الحديث عن هذا المسلسل سابقاً لأوانه، إذ لم يُعرض منه حتى الآن إلا ثلاث حلقات، لكن هذه السطور لا تتناول المسلسل فنياً، وإنما فكرة إنتاج عمل يحكي سيرة الشيخ «ابن عربي»، كثاني إنتاج عربي حسب علمي يتناول شخصية ذات بُعد إسلامي عالمي غير تقليدي كهذه، بعد قحط في هذه الأعمال لأكثر من نصف قرن، أي بعد الفيلم الذي أنتج سنة 1963 عن شيخة العاشقين «رابعة العدوية».
وباستعراض الإنتاج العربي التاريخي سنجد أن أغلبه يدور حول فقهاء، كمسلسل «ابن تيمية»، ومسلسل «الإمام الغزالي»، أو خلفاء، كمسلسل «هارون الرشيد»، ومسلسل «أبو جعفر المنصور»، وفيلم «الناصر صلاح الدين»، أو قادة، كمسلسل «الحجاج»، ومسلسل «القعقاع»، ومسلسل «صقر قريش»، أو أعمال تتناول الغزوات والحروب، كمسلسل «خيبر»، وفيلم «وا إسلاماه»، أو أعمال تستعرض دولة الخلافة، كمسلسل «سقوط الخلافة» الذي أنتجته دولة قطر سنة 2010 لتلميع الدولة العثمانية! هذا بالإضافة إلى إنتاج نادر حول علماء وفلاسفة، كمسلسل «ابن سينا»، وفيلم «المصير» عن سيرة ابن رشد.
والآن.. لماذا ابن عربي؟ أعتقد أن هذه الشخصية جديرة بالاحتفاء لأنها تمثل جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية، فابن عربي والرومي وابن الفارض والخيام والحلاج والسهروردي.. كانوا ممّن اعتنوا بمعرفة النفس، وبناء مملكة الله في القلب، وحبّ الخلق لأن المحبوب قد خلقهم، فذابوا في العشق الإلهي، وانشغلوا بالغاية من الخلق، وبالناي الذي أقتُطِع من منبته. وهو الخط الذي لم ينل حظه من الأعمال الفنية، وفي المقابل، أخذت بقية روافد الحضارة الإسلامية كفايتها من العرض التلفزيوني والسينمائي.
ابن عربي يمثل خطاً أصيلاً في الحضارة الإسلامية يرى أن الحقائق المتعددة حقيقة واحدة، وأن جوهر الأديان واحد، وأن المقصود فيها واحد، وأنه إذا كان بعضهم قد اشتبه عليهم أمر ربّهم، كما نعتقد نحن، فهذا لا ينافي أنهم متوجهين إليه من حيث تصوّرهم، وهو أعلم بمقصودهم، وحسابهم لا لنا ولا علينا. ومن ثم لا تفوّق في الأمر، ولا استعلاء، ولا تعصب، ولا تعالي، ولا تحفّز ضد الآخرين، ولا كراهية، ولا استئصال، بل اعتراف بتعدّد الألوان، واحترام لاختلاف الدروب، وتقدير للرفيق في الطريق إلى الحق.
ابن عربي يمثل الصوت الذي يدعو للمحافظة على التنوّع الثري في العقائد الدينية والمذهبية في منطقتنا، لأنه في وسعنا، بل واجب علينا، تقبّل الجميع والتعايش معهم، لأننا أتينا إلى هذا العالم لنتواصل لا لنتفاصل، إذ الآخر دينياً مختلفٌ وليس له أي وصف آخر.
ابن عربي يمثل النقيض للأصولية الدينية التي نشرت التديّن الظاهري، والجدال العقيم حول المذاهب، وتسبّبت في تخمة فقهية في مقابل ظمأ روحي شديد، وجلبت الطائفية والكراهية ومعاداة العالم، وأنتجت أجيالاً سطحية منغلقة فكرياً، وكان من ثمارها المتنطعين في الدين، والتكفيريين، والإرهابيين.
يأتي هذا العمل التلفزيوني مع بداية حقبة السلام الديني في المنطقة، وليفتّح العيون إلى أهمية التسامح الديني، فثمة كنز في التراث كان مخفياً تحت الرمال، وآن الأوان لاستخراجه والاستفادة من جواهره.