قد يبدو اختيار هذه المئوية المنسية الأخرى خاصاً، لكنه يرتبط بأهم ركيزة للتطور المنشود في منطقتنا، ألا وهي التعليم، خاصة مؤسساته الأجنبية التي تتزايد في مشرق العالم العربي ومغربه. فكيف بدأت هذه الظاهرة منذ قرن قبل الآن؟ ولماذا تنجح وتتوالد؟ وما هي آثارها على مؤسساتنا الوطنية؟
الأمر الشائع خلال العام الجاري، أنه عندما نتكلم عن المئوية ينصرف الذهن تلقائياً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد يكون هذا منطقياً على أساس أن هذه «الحرب الكبرى» كانت الحدث الممهد لانهيار نظام دولي كامل، بما فيه من إمبراطورياته الكبيرة، مثل الإمبراطورية العثمانية، وقيام نظام دولي آخر بمبادئه الجديدة، مثل مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون الأربعة عشر، أو قيام مؤسسات دولية مثل عصبة الأمم في جنيف، وما شكلته من خلفية لقيام منظمة الأمم المتحدة الحالية في نيويورك.
لكن عندما ألْفتُ النظر إلى المئوية المنسية، فأساس الاختيار ليس فقط الارتباط بماضي منطقتنا العربية خلال القرن المنصرم، ولكن بحاضرها أيضاً، كما فعلنا في المقال السابق حول مئوية منظمة العمل الدولية (من بقايا عصبة الأمم)، وتطور مشروعاتها فيما يتعلق بأحوال التشغيل والهجرة في العالم العربي وجواره، أي للتذكرة بظاهرة ماضية بغية فهم أصول الحاضر.
موضوعنا هذه المرة عن مئوية منسية أخرى، رغم ارتباطها بالحاضر المعاش وبالمستقبل الذي نستثمر فيه ونقوم بالإعداد له، أقصد التعليم، خاصة وفود التعليم الأجنبي وفروع جامعاته التي تتزايد أكثر وأكثر في العالم العربي، من فروع جامعتي نيويورك وجورج تاون إلى جامعة السوربون.
لقد بدأ نمط التعليم الغربي -خاصة الأميركي- في لبنان خلال القرن التاسع عشر مع الجامعة الأميركية في بيروت، والتي يعرفها معظمنا. لكن طالما أننا نتحدث عن المئوية هذه الأيام، فأركز هنا على الجامعة الأميركية في القاهرة، والتي بدأت في سنة 1919.
تبدو هذه الجامعة صغيرة نسبياً، إذ لا يتجاوز عدد طلبتها 6500 طالب وطالبة، ضمنهم نحو 1000 في الدراسات العليا، بينما يقترب عدد الطلاب والطالبات في جامعة القاهرة، مثلاً، من نصف مليون. وبما أن عدد الأساتذة المنتظمين في الجامعة الأميركية يصل نحو 500 (بالإضافة إلى ما يقارب هذا العدد من غير الدائمين)، فإن هذا يُبيّن المعدل المتميز لعدد الطلاب لكل أستاذ، وهو في الجامعات الكبرى مؤشر على الاهتمام الذي يحظى به الطالب.
ولأن عدداً كبيراً من هؤلاء الأساتذة أجانب أو تم استقدامهم من الخارج، فإن مرتباتهم شبه دولية، ومن هنا يأتي ارتفاع المصروفات التي يدفعها الطالب: حوالى 17 ألف دولار، أي خمسة أضعاف متوسط الدخل السنوي للفرد في مصر. ولكي تتجنب أن تكون جامعة للأغنياء فقط، فقد اعتمدت نظام المنح للطلاب المتميزين، مثل أوائل الثانوية كل عام أو الذين ينجحون بدرجة امتياز.
وبالإضافة إلى استقطاب الطلاب المتميزين، وكذلك المعدل الرائع لنسبة الأساتذة إلى الطلاب، فثمة عوامل نجاح أخرى في هذه الممارسة التعليمية الناجحة:
1- تربية الفكر النقدي والمستقل عند الطلاب، لذلك ينجح معظم هؤلاء في المنافسات الدولية ويتبوؤون مراكز قيادية في المنطقة وخارجها.
2- إن معظم الأساتذة ليسوا مدرسين فقط، ولكنهم باحثون أيضاً، وبالتالي هناك عملية تجديد مستمرة على كل المستويات.
وبمناسبة مئويتها، تقوم الجامعة الأميركية في القاهرة بمشروع بحثي كبير لاستشراف مستقبل المنطقة في سنة 2030. كما أن نشر نتائج بحوث أساتذتها في الدوريات العلمية ذائعة الصيت، يضيف لمكانتها ويجعلها محل تقدير عالمي دائم ويضيف إلى مصداقيتها العلمية.
السؤال الرئيس الآن: بعد مائة عام على قيام الجامعة الأميركية في القاهرة ومثيلاتها، كيف نضمن أن لا يؤثر استمرار هذه الخبرة العالمية سلباً على هوية المواطن العربي ومجتمعه؟ وكيف نجعل جامعاتنا الوطنية على المستوى نفسه، حتى تفوز في منافسة التعليم العالي داخلياً وخارجياً؟