لا يوجد نظام دنيوي متكامل ومن دون عيوب، ولذلك فالحياة تعجّ بالممارسات النسبية، مما يجعل العديد من الافتراضات عن الديمقراطية يصعب فحصها دون تحيّز، أو حتى تناولها بموضوعية وحيادية تامة لا تعكس العادات والتقاليد، والإرث الثقافي والمعرفي والميول والمعتقدات، وتعريف الحضارة، وأيضاً تحديد ما هو أخلاقي وما يمثّل العدل والعدالة والمساواة لدى مختلف الشعوب. ويبدو أن مسألة تعميم مفاهيم الديمقراطية وفرضها كممارسة متقدّمة وصحيحة لنظم الحكم الناجحة هو افتراض خالٍ من المنهجية العلمية.
فهناك العديد من الأشكال المختلفة للديمقراطية التي تمثّل جوهر وروح كل ثقافة، وإن كانت لا تطبّق ما ُيسمى «حكم ديمقراطي تقليدي»، وهل منعت الديمقراطية الشعب الإسرائيلي من وقف جنودهم من قتل الأطفال الفلسطينيين العزّل؟ أو ساهمت في دخول المتشرّد الفقير المعدم في شوارع نيويورك إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم بدلاً من تركه يواجه الموت وحيداً؟ أم أن هناك خللاً في ربط الديمقراطية بالتحضّر والرقي وتحقيق الضمان الاقتصادي والمجتمعي للإنسان؟
فما يجب أن نعرفه في عالمنا العربي بأن ثورات الشوارع لن تغيّر نظام الحكم وستغيّر رؤوس النظام فقط! ولذلك فلا بدّ من التركيز على أسس المجتمعات المتقدّمة التنموية المعرفية وأنسنة المفاهيم التي تصنع هوية كل مجتمع بغض النظر عن نظام الحكم. فالديمقراطية تتطلّب نظاماً ليبرالياً ومجتمعاً مدنياً مكتمل البناء، وحتى وإنْ توفرّت هذه المعطيات فمن سيضمن التحكّم في الجينات الأنانية للبشر وحب السيطرة والمال والنفوذ والسلطة، سواء كان فرداً أو حزباً فالشر والخير مكمّلان لبعضهما البعض ومن الأول ُيولد الثاني والعكس صحيح، وهو لبّ الحياة غير المثالية على الأرض، والتي ُسميت حياة ليحيا فيها الإنسان بتناقضاتها، ويكافح في صراع بقاءٍ داخلي وخارجي لا تعكسه قيم الديمقراطية، بل تنافيها تماماً، وبالتالي هي منافية للطبيعة البشرية المحضّة، وفي نهاية المطاف هي حكم الأقوى والأكثر تأثيراً وحظوةً، وتملّكاً للمال وللدعم من أركان القوى في الدولة سواءً كانت اقتصادية أو دينية أو اجتماعية، وليس حكم الأغلبية كما ُيتداول وُكرّس في عقول العامة على الرغم من انفراد أصحاب النفوذ بالحكم في نهاية المطاف، ولا يستطيع أي شخص أن يحكم خارج نطاق المصالح المتشابكة في مجتمعه أو بما يضرّ مصالح الأقوى في المجتمع.
فحماية الحقوق الفردية ثانوية، أما الحقوق الجماعية المختلفة واستقلال الموجات الشعوبية، هو من يوصل الأشخاص في أوروبا وأميركا وغيرها لسدّة الحكم، وكمية وحجم الفساد في الدول التي تمارس الديمقراطية لا يستطيع أي شخص أن يدعّي بأنها تقلّ عن الدول غير الديمقراطية، وتوفّر الدعم لحياة كريمة وإعادة توزيع ما يكفي من الثروة لإنشاء طبقة متوسطة كبيرة، ومحاربة الفقر لا تتطلّب نظاماً ديمقراطياً، حيث إن حالة عدم المساواة في الدخل في الغرب هي الأعلى في العالم، وهناك نقطة أخرى يجب مراعاتها، وهي أن الديمقراطية الجماهيرية تطوّرٌ حديثٌ جدًا في تاريخ العالم، والديمقراطيات الليبرالية مبنيّة على شكل من أشكال الرأسمالية مع وجود توتّر بين النظام الاقتصادي السائد ومتطلّبات الديمقراطية.
وبالنسبة للشرق الأوسط يعدّ الحفاظ على هوية المجموعة هو الأهم وله ُبعد ديني وتقاليدي مجتمعي عريق، ولذلك فالديمقراطية لا تعكس البيئة العربية والإسلامية، ومحاولة تصدير الديمقراطية الليبرالية إلى البلدان التي لم تمرّ بالإعداد التاريخي اللازم للقيام بذلك ستكون له عواقب وخيمة على تطوّر المجتمع، وهل وصلت الشعوب العربية لمستوى وعي سياسي مرتبط بمستوىُرقي حضاري يعكس الداخل وثقافته؟ وهل لديها مستوى اقتصادي ومعرفي جعلها هي مصدر الثروة الأساسية لبلدانها على غرار ما حدث في دول النمور الآسيوية؟! والطبقة المتوسطة، هل أصبحت تمثّل النسبة الأكبر في الشعوب العربية، وكيف نتحدّث عن أرض خصبة للديمقراطية وحتى كنسخة ُمحدّثة في دول يعاني بعضها من نسبة أمية لا تقلّ عن 30%، وتسمع الأصوات التي تنادي بالنظام الديمقراطي بالصيغة الغربية وهي التي تعاني من أشد الانقسامات الطائفية والدينية والعرقية؟
ففي الشرق الأوسط لا ُتعامل الأقليات على قدم المساواة مع الأغلبية في أكثر الدول، وهل سيقبل المسلمون بأن يحكمهم شخص مرتدّ عن الدين الإسلامي وله ميول غير مقبولة دينياً ومجتمعياً على سبيل المثال؟ ومن خلال الإجابة على هذا السؤال لربما نستطيع أن نقول إن حماسة الدعوة للديمقراطية مضللّة تمامًا في مجتمعات ُتعتبر فيها المحاباة للأقارب وأبناء القبيلة والطائفة ُخلق اجتماعي غير مرفوض بل العكس هو المذموم! والأدهى من ذلك عند اندلاع الثورات ُيطلب من الجيوش أن تضع أسس الحياة الديمقراطية وأن تحميها! أو أن تقود الأحزاب السياسية والنقابات المهنية المجتمع ككل، وتتحدث بالنيابة عنه وكأنها تمثله، وهذه الأحزاب أقرب في حقيقة الأمر إلى أن تكون أندية سياسية مغلقة وخاصة، فهل هذه هي معطيات البيئة الديمقراطية التي يتحدثون عنها؟