شهدت مدينة «جوهانسبيرج» بجنوب أفريقيا، يوم السبت الماضي، منتدى دولياً طالب المشاركون فيه من ممثلي الحكومات، ومن منظمات المجتمع الدولي، بمزيد من الشفافية والمصداقية حول تكلفة أبحاث اكتشاف وتطوير الأدوية والعقاقير الطبية، وكلفة تصنيعها وتوزيعها، حتى يتسنى للمشترين لتلك العقاقير، من نظم الرعاية الصحية أو الأفراد والقطاع الخاص، التفاوض مع شركات الأدوية العملاقة للحصول على سعر عادل.
ولطالما كانت تكلفة الأدوية والعقاقير الطبية مصدر قلق للدول النامية، وهو القلق الذي انتشر مؤخراً كذلك بين الدول الغنية. حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 100 مليون شخص يدفعون قسراً نحو هاوية الفقر، بسب اضطرارهم لدفع نفقات علاجهم من جيوبهم، جزء كبير منها يذهب باتجاه شراء أدوية وعقاقير طبية باهظة الثمن. ولا يقتصر هذا التأثير على الدول النامية والفقيرة فقط، بل كثيراً ما أصبحت تضطر نظم الرعاية الصحية في الدول الغنية، وخصوصاً تلك التي تطبِّق نظام رعاية صحياً قومياً يوفر العلاج بالمجان لجميع أفراد المجتمع، للاقتصاد في صرف الأدوية باهظة الثمن، مثل تلك التي تستخدم في علاج الأمراض السرطانية، والتهاب الكبد (سي)، وبعض الأمراض النادرة. وأحياناً ما تمتد هذه السياسة إلى بعض الأدوية والعقاقير التي انقضت فترة الحماية الفكرية عنها، مثل الأنسولين الذي يستخدم لعلاج مرضى السكري.
ويأتي انعقاد المنتدى سابق الذكر على خلفية صدور تقرير، نشر في عدد يناير 2018 من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (British Medical Journal)، وقد خلص إلى أن تكلفة إنتاج وتصنيع الغالبية العظمى من «قائمة الأدوية الأساسية»، لا يشكل إلا جزءاً صغيراً من السعر النهائي الذي تدفعه الحكومات، والأفراد، وشركات التأمين. وانتهى التقرير إلى أن جزءاً كبيراً من الأدوية الأساسية، يمكن تصنيعها وبيعها بتكلفة منخفضة، وفي نفس الوقت يمكن للشركات المصنّعة أن تحقق أرباحاً، حتى في ظل بيع تلك الأدوية بأسعار أقل بكثير مما هي عليه الآن. ويضيف التقرير أن تقدير تكلفة أسعار الأدوية الجنسية، ومقارنة الأسعار على المستوى العالمي، يمكن أن تمنح الحكومات والدول موقفاً أقوى في التفاوض مع شركات الأدوية متعددة الجنسيات، وأن تدعم الجهود الرامية لخفض نفقات الرعاية الصحية. لكن للأسف، وعلى حسب ما زعمه المشاركون في منتدى جوهانسبيرج، ينتج عن فقدان الشفافية حول الأسعار التي تدفعها بعض الدول لأدوية أو عقاقير معينة، أن بعض الدول النامية والفقيرة تدفع في النهاية أسعاراً أعلى من تلك التي تدفعها الدول الغنية والصناعية.
ولا بد هنا أن نتوقف قليلاً عند مفهوم الأدوية الأساسية. هذه الأدوية تعرفها منظمة الصحة العالمية على أنها: تلك التي تفي باحتياجات الرعاية الصحية لغالبية أفراد المجتمع، والتي يجب أن تكون متوفرة دائماً بكميات كافية، وفي شكل وبجرعات ملائمين، وبسعر مناسب للغالبية من الناس. ولتوضيح هذا المفهوم، تنشر منظمة الصحة العالمية قائمةً توضيحية من هذه الأدوية، مع تشجيع كل دولة على حدة، لتجميع القوائم الخاصة بها، مع الأخذ في الاعتبار الأولويات والظروف المحلية.
وتتكون قوائم الأدوية الأساسية في الغالب، من واحدة مركزية (core list)، وأخرى إضافية (complementary list). القائمة المركزية تتضمن الحد الأدنى الضروري لمتطلبات الرعاية الصحية الأولية، شاملة العقاقير الأكثر فعالية وأمناً، والأرخص سعراً. هذه الأمراض يتم تحديدها، على أساس التقدير الحالي والمستقبلي لانتشارها بين أفراد المجتمع، ومدى توفر علاج فعال وآمن ضدها، مع الأخذ في الاعتبار التكاليف الاقتصادية للعلاج. أما القائمة الثانية، أو قائمة الأدوية الإضافية، فتعنى بعلاج الأمراض ذات الأولوية أيضاً، لكن تلك التي تتطلب نفقات إضافية أخرى لتحقيق الشفاء، مثل نفقات التحاليل والفحوصات الطبية. وتأتي أهمية قوائم الأدوية الأساسية، بنوعيها المركزي والإضافي، من أنها تمكِّن السلطات الصحية، وخصوصاً في الدول النامية، من ترشيد وتوجيه ما هو متاح من مصادر مالية لشراء وتوزيع الأدوية والعقاقير.
وتتلخص النتيجة النهائية في فقدان الشفافية في تسعير الأدوية، خصوصاً الأساسية منها، ودفع بعض الدول لأسعار أعلى بكثير من تلك التي تدفعها دول أخرى، إلى تحميل نظم الرعاية الصحية، والأفراد أيضاً، ما لا طاقة لهم به، مما يجعل الابتكارات والتطورات التي تحدث في عالم الأدوية والعقاقير قاصرةً عن تحقيق الفائدة المرجوة منها بالشكل الكامل، بل يفقدها القيمة الاجتماعية في ظل عجز الكثيرين عن الحصول عليها، وهو ما يجعل هذه القضية قضية حقوق إنسانية عالمية الأبعاد، في ظل حق الجميع في الحصول على رعاية صحية جيدة.