«الناتو»، التحالف الذي شكلته أميركا وأوروبا الغربية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يحتفل بالذكرى السبعين لإنشائه، وسط توترات داخلية صعبة. غير أن التقارير حول وفاته تنطوي على مبالغة كبيرة جداً. والمثير للسخرية أن الفضل في عمره المديد إنما يعود للزعيم الروسي فلاديمير بوتين.
في السنوات الأخيرة كان «الناتو» قد بدأ يُظهر سنه الحقيقي. والواقع أنه لم يكن قد أصبح «قديماً ومتجاوَزاً»، حتى نستخدم التعبير المفضل لدى ترامب خلال الحملة الانتخابية الماضية. لكن كونه أُسس من أجل توحيد الولايات المتحدة وديمقراطيات أوروبا خلال فترة ما بعد الحرب ضد القوة المتزايدة لروسيا السوفييتية، فإنه بدا كحلف قديم يبحث لنفسه عن هدف جديد يميزه.
ولعل تقادم المهمة القديمة، أي احتواء التوسع الروسي وردع أي اعتداء روسي ممكن، غيّر تركيز الناتو. بل يمكن القول إن الحلف قد يكتسب طاقة ونشاطاً جديدين في هذه المرحلة، استناداً إلى مدى قدرته على التعاطي بنجاح مع هذا الدور، وكيفية تكيفه مع التحديات المشتركة الجديدة مثل صعود الصين.
وبالطبع، فإن بوتين لم ينو مساعدة الناتو. فلطالما أوضح أنه ينظر إلى نهاية الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو مع دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه، باعتبارها الكارثة التي طبعت حياته. ثم إن نزعة متزايدة لتأكيد الذات تحدوه من أجل إعادة تأكيد النفوذ الروسي في الدول المجاورة، ففي 2014، دعمَ القوات الانفصالية في أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم. وفي الشرق الأوسط، كان تدخله في الحرب الأهلية السورية لصالح الرئيس بشار الأسد، ما أعطى روسيا صوتاً مهماً في مستقبل ذالك البلد ووجوداً في الشرق الأوسط شوهد آخر مرة في أيام الاتحاد السوفييتي.
غير أن نظرة بوتين، المتأثرة بالحقبة السوفييتية، لمصالح روسيا الأمنية ونفوذها الجيوسياسي ساعدت أيضاً على تعزيز قوة الناتو.
والواقع أن توترات الحلف الداخلية حقيقية، وهي جدية، لأسباب ليس أقلها أنها تتعلق بمساهمَيْن عسكريين رئيسيين: الولايات المتحدة وتركيا، على الخاصرة الجنوبية للناتو، والمشتركة في حدود مع سوريا.
وإلى ذلك، فإن الرئيس ترامب، الذي صعّد محاولات الرؤساء السابقين تأمين «تقاسمٍ (أكثر عدلاً) للعبء»، اتهم أعضاء الناتو الأوروبيين باستخدام التحالف فقط لتحميل دافع الضرائب الأميركي الجزء الأكبر من فاتورة دفاعهم الخاص. كما كانت ثمة روايات متعددة تفيد بأن الرئيس الأميركي تطرق لفكرة انسحاب الولايات المتحدة من الحلف مع مساعديه.
وفي الأثناء، يوجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خلاف مع واشنطن حول وجود المقاتلين الأكراد السوريين، وهم حلفاء رئيسيون للولايات المتحدة ضد «داعش». ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن أردوغان تجاهل حتى الآن التحذيرات الأميركية من عواقب وخيمة، ومضى قدماً في المفاوضات حول صفقة بمليارات الدولارات من أجل شراء منظومة دفاع صاروخي من روسيا.
وفي الوقت الراهن على الأقل، يبدو أن لدى كل الأطراف، الولايات المتحدة وتركيا والناتو نفسه، أسباباً وجيهة لإيجاد نوع من التوافقات. ذلك أن تركيا هي الوزن المضاد الممكن للنفوذ الروسي والإيراني في سوريا ما بعد الحرب. وأردوغان يدرك أن خصم تركيا التاريخي، أي اليونان، سيبقى في الناتو حتى في حال انسحابه.
ورغم موقف أردوغان المتشكك، فإن كلا الحزبين الأميركيين الرئيسيين في الكونجرس واصلا دعم الناتو، لأسباب ليس أقلها التخوف من تحركات روسية ممكنة في جمهوريات سوفييتية سابقة أخرى.
غير أنه لا شيء من ذلك يعني أن الناتو سيبقى بالضرورة لسبعة عقود أخرى. وهذا سيعني ضرورة التأقلم مع تهديدات أمنية جديدة، ليس فقط من النوع الذي كان سائداً زمن الحرب الباردة. ففي ما يتعلق ببوتين، مثلا، فإن التحالف لم يتخذ بعد رداً ذا مصداقية على تدخل روسيا السيبراني واستخدامها وسائل التواصل الاجتماعي، سواء في انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية أو في الدول الأوروبية.
وإلى ذلك، هناك تحد أكبر وأطول أمداً. فبالنظر إلى قاعدتها الاقتصادية الهشة، من بين أشياء أخرى، فإن روسيا تُعد قوة عظمى آخذة في التراجع. وحتى قبل انتخاب ترامب، كان تركيز أميركا قد أخذ يتحول نحو آسيا ومنافس أكثر قوة بكثير، ألا وهو الصين.
وكما يدل على ذلك النقاش المشحون عبر الأطلسي حول مشاركة شركة التكنولوجيا «هواوي» في شبكة الجيل الخامس المقبلة للإنترنت، فإن الولايات المتحدة وشركاءها في «الناتو» لم يتوصلوا بعد لمقاربة مشتركة للتداعيات الأمنية الممكنة للدور الاقتصادي والجيوسياسي المتزايد الذي أخذت تلعبه الصين.
وإذا كانت الصين تقع خارج النطاق المستهدَف من قبل الناتو إبان تأسيسه، فإنها صعدت إلى الواجهة كمنافس دولي رئيسي للولايات المتحدة. ومما لا شك فيه أن اختلافاً أساسياً في المقاربة بين واشنطن وشركائها الأوروبيين سيشكّل على نحو لا مناص منه ضغطاً على وحدة الناتو وتماسكه.

*صحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»