«عجلة العدالة تطحن ببطءٍ، لكن تطحن ناعماً»، قال ذلك الحكيم الصيني «صُن تزو» مؤلف كتاب «فن الحرب» في القرن الخامس قبل الميلاد، وهذا ما تفعله الآن عجلة الثورة العلمية التكنولوجية، التي تطحن جميع بلدان الغرب ببطءٍ لكنها تطحن طحناً ناعماً. والسؤال هو إلى أين تتجه عملية الطحن، التي تستخدم القوة الصاعدة لتراكم رأسمال «فيسبوك» و«أبل» و«مايكروسوفت» و«غوغل» و«أمزون».. سويةً مع الذكاء الصناعي، وما يسمى «سلسلة الكتل» التي تركبُ متن هذه التقنيات، وتقيم نظاماً يستغني عن الوسطاء في جميع مجريات حياة الناس، من إدارة سجلات اِلأحوال المدنية، حتى التعامل المصرفي.
و«بريكست» عجلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إيذانٌ بعصر جديد للديمقراطية عنوانه «تدمير كل شيء»، حسب الكاتب الأميركي «ماكس فيشر» الذي يقول إن البريطانيين يريدون الخروج من الاتحاد، لكن لا يريدون الخروج دون صفقة، ولا يعرفون ما هي الصفقة. و«هذا التوجه الذي يخلقه التغير الاجتماعي، والثورة الاقتصادية، والاختلال التكنولوجي، يزيد في سوء بعض أكثر مشاكل الديمقراطية خطورة». يحدث ذلك في كل مكان حسب «ستيفن لتيفسكي»، أستاذ العلوم السياسية في «جامعة هارفارد». ومفارقة الأزمة الحالية وضع أعضاء الأحزاب، الذين يبدون أكثر تحزباً من أي وقت مضى، وخارجين عنها في آن، ويقوم ولاؤهم الحزبي على قاعدة دعم كل ما يُضّاد به حزبهم الأحزاب الأخرى، وينتهي هنا، حيث يمقتون قيادات أحزابهم كمقتهم قادة الأحزاب الأخرى.
ويمكن متابعة كيف أنهت عجلة التكنولوجيا عصراً سياسياً بالكامل، ومكّنت المرشحين المستقلين من الحصول على الأموال عبر الأونلاين، دون الحاجة إلى موافقة زعماء الحزب أو النقابات، ويبلِّغون الناخبين مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وغيّر هذا تركيب الحياة السياسية في الغرب، حين جلب أحزاباً بديلة في أوروبا، وحقق السيطرة للناخبين، وليس للمؤسسات الحزبية. ومشكلة الغرب كله أن شعوبه فقدت الأمل في أي تغيير، وهي تشكك حتى بشرعية أنظمتها.
وهل تقضي هذه الثورة التكنولوجية الشاملة على الرأسمالية، كما كان يتصور كارل ماركس، أم تؤدي إلى تقليل اللامساواة وترفع مستوى الرفاه العام، حسب مجريات الأحداث خلال القرنين الماضيين؟.. السؤال مطروح في المدونة السياسية لـ«جامعة أكسفورد»، وفي الجواب عليه يستعيد الباحث البريطاني «مارتن لاوسيغر» كيف ولدت التكنولوجيا الرأسماليين في القرن التاسع عشر، ووضعتهم في مركز الاقتصاد والمجتمع. وتُراكم الآن عجلة التكنولوجيا احتياطات نقدية جبارة تبلغ 250 مليار دولار في «أبل»، و110 مليارات دولار في «مايكروسوفت». وهذه ليست مجرد أرباح، بل بيئة جديدة ينشئها عمالقة التكنولوجيا، وتدخل في جميع آفاق حياة الناس، وتزيد ثراء الأثرياء وتفقر الفقراء، وليست كما نتصور «المد الذي يرفع جميع القوارب».
وعجلة التكنولوجيا المتقدمة كالعقل الاصطناعي، و«البشر الآليين» (الروبوتات)، تستبدل الأعمال عبر الاقتصادات كلها، ويتوقع أن تستبدل في الولايات المتحدة 38% من الوظائف الحالية مع حلول عام 2030. لكن الباحث البريطاني يستبعد أن تتحقق توقعات «ماركس» في القضاء على الرأسمالية، التي أبدت قدرة على التكيف مع التطورات، مثل إنشاء دولة الرفاه الاجتماعي في ألمانيا، وتبدع الآن فنلندا نظام «الدخل الأساسي الشامل». ويأخذ الباحث البريطاني على «ماركس» عدم حدوث توقعاته عن دور الطبقة العاملة «البروليتاريا» في تغيير أنظمة دول رأسمالية متقدمة، مثل بريطانيا وألمانيا، وليس في دول غير رأسمالية، مثل روسيا والصين. والحقيقة أن «ماركس» كان يراجع كتاباته ويعيد صياغتها دائماً، ويمكن تلخيص أهم ما قاله في جملة واحدة: «الثورة في أدوات الإنتاج تستدعي ثورة مماثلة في علاقات الإنتاج». وهذا ما تفعله الصين على مستوى العلاقات الدولية في مبادرة «طريق الحرير» التي صادق على وثائقها 142 بلداً، وفي المقدمة منهم دول عربية مهمة.

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا