تم الحديث عن شهر مارس المنصرم في الإعلام العالمي على أنه شهر المئوية.. فما المعنى المقصود من ذلك؟ وما علاقته بمنطقتنا؟
المئوية المشار إليها هي مرور قرن على مارس 1919، تاريخ نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي ما يزال البعض يطلق عليها تسمية «الحرب الكبرى»، بمعنى أن هذه الحرب التي استمرت لأربعة أعوام كانت استثنائية من حيث الدمار والقتل اللذين أحدثتهما. لقد كان عدد القتلى والمصابين والمفقودين فيها أكثر من 37 مليون نسمة، وهو عدد ضخم بالنسبة لسكان العالم آنذاك، ناهيك عن تدمير البنية التحتية للدول والمجتمعات، والآثار النفسية لمن فقدوا ذويهم، علاوة على ملايين المصابين الذين عاشوا بقية حياتهم معاقين مادياً ومعنوياً.
ويجب التذكير هنا بثلاث نتائج عالمية لهذه الحرب الكبرى:
1- بسبب قوّة المعاناة، كان هُناك إصرار على عدم تكرار هذه الكارثة، لذا جاء إنشاء منظمة تُساعد الدول المختلفة على عدم الوقوع في فخ حرب أخرى ومحاولة التحكم في الصراعات قبل التصعيد والذهاب إلى ميدان القتال.. حيث جاء إنشاء أول منظمة دولية هي عصبة الأمم في جنيف، والتي أرست مبادئ ومعالم التنظيم الدولي الذي نراه الآن مع الأمم المتحدة في نيويورك.
2- أهمية مساعدة هذا التنظيم السياسي الدولي بوجود أساس علمي في تتبع ودراسة العلاقات الدولية، حيث تم إنشاء كرسي متخصص في هذا المجال في جامعة أبرثتويث في مقاطعة ويلز البريطانية، كما تم تأسيس المعهد العالي للدراسات الدولية بجانب عصبة الأمم في جنيف، في مبنى ما يزال قريباً من مقر المنظمة الدولية، حتى وإن تمت إضافة مباني جديدة إليه بسبب زيادة عدد أساتذته وطلابه. والهدف هو البحث في أسباب الحروب وبناء منهجية للتحكم في الأزمات والصراعات إن تعذرت تسويتها.
3- نهاية بعض الإمبراطوريات واستقلال بعض مكوناتها، مثل الإمبراطورية النمساوية، وكذلك الإمبراطورية العثمانية التي تزامنت هزيمتها مع ظهور القومية العربية.
ورغم أن الحرب انتهت فعلياً في عام 1918، فإن عام 1919 كان صك نهايتها الرسمية، وذلك عن طريق معاهدة فرساي في فرنسا. وما يهمنا في هذه المعاهدة الدولية ليس فقط تأكيدها نهاية بعض الإمبراطوريات، ولكن أيضاً مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الأربعة عشر، وأهم مبدأ فيها شكّل القرنَ العشرينَ بأسره، ألا وهو مبدأ تحقيق المصير، أي الحق في التخلص من الاستعمار والحصول على الاستقلال، وظهور دول العالم النامي التي تشكل الآن غالبية أعضاء الأمم المتحدة. وكانت أول محاولة لتطبيق هذا المبدأ في المنطقة العربية، هي ثورة 1919 الشعبية في مصر بقيادة سعد زغلول باشا ورفاقه. ويرتبط هذا الاسم بوفد النخبة المصرية الذي ذهب إلى دار المندوب السامي البريطاني في القاهرة طالباً السفر للدفاع عن حق مصر في تحقيق المصير والاستقلال تطبيقاً لمبدأ ويلسون المذكور. وقد تم القبض على أعضاء الوفد ونفيهم خارج البلاد، فقامت ثورة شعبية عارمة، من طبقات الشعب المختلفة، برجاله ونسائه، في الريف والمدن.
وأذعنت قوات الاستعمار البريطاني وأفرجت عن أعضاء الوفد، وفي النهاية نالت مصر استقلالها في عام 1922، ولو كان استقلالاً شكلياً، وأصبح «الوفد» الاسم الرسمي لأحد أكبر الأحزاب السياسية في البلاد، والذي استمر كجزء من الحياة السياسية المصرية حتى الآن.
ويتبين من ذلك -أي من خلال ظهور المنظمات الدولية، ومعاهد البحث والدراسة، وهزيمة بعض الإمبراطوريات، ومبدأ الحق في تقرير المصير- أن العالم كان بالفعل مترابطاً، وذلك لعقود قبل الحديث عن العولمة التي تتسارع وتيرتها الآن.