ُتعدّ الصناعات العسكرية اليوم من أهم ركائز اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى، ويشكّل سوق بيع الأسلحة في العالم أهمية كبرى للدول المصّنعة والمصدّرة له، بحيث تعتمد هذه الدول على هذا السوق كمدخول أساسي لها لوضع الميزانيات المالية ولتحديد الواردات والنفقات المستقبلية، مما يزيد من صعوبة عدم التدخل المباشر لتلك الدول في الحروب، لا بلّ وصناعتها وتفجير بؤر أزماتها في شتى بقاع الأرض كمبدأ رئيسي لدعم الصناعة العسكرية في القطاع الخاص والعام في دولها، وبيع الأسلحة في سوق مفتوحة تعدّ حكومات هذه الدول أبرز تجارها وعملائها، بعيداً عن حثّ صندوق النقد الدولي للحد من الإنفاق العسكري.
ولكن ما السبيل لفعل ذلك عندما تتقارب استراتيجيات المؤسسات الأكثر نفوذاً في مختلف دول العالم كوزارات الدفاع والتصنيع العسكري ووزارات التجارة والصناعة، والمؤسسات المالية المحلية والدولية للعمل ضمن مثلث متوازي المصالح وغير قابل للتفكيك على جميع المستويات، ليروّج هذا الثالوث غير المقدس لانتشار الأسلحة، وزيادة الميزانيات الدفاعية وهيمنة شركات تصنيع الأسلحة، وتكديس الأزمات والصراعات في كل قارات العالم من خلال سلاح عولمة الصناعات العسكرية!
وحول هذا الموضوع نشر "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" تقريراً في مستهل هذا العام يتضمن لائحة بأكبر الدول المصدرة للأسلحة في العالم، وبحسب التقرير فقد احتلت الولايات المتحدة الأميركية المركز الأول في تصدير الأسلحة على الصعيد العالمي، وقد باعت أسلحتها لـ 93 دولة عام 2018، وتلتها روسيا والصين، وجاءت كل من فرنسا وألمانيا في المركزين الرابع والخامس في لائحة التقرير لتشكّل تلك الدول حوالي 75% من صادرات الأسلحة في السوق العالمي، أما الولايات المتحدة وروسيا فتشكّلان النسبة الأكبر حوالي 57% من السوق العالمي لصادرات الأسلحة.
وتتمتّع صناعة الدفاع والأسلحة بمزايا رفاهية الشركات من خلال الثغرات الضريبية، وزيادة ميزان التصدير وتعزيز البحث العلمي والتطوير، والضمانات المختلفة التي ُتعتبر من مسرّعات وممكنّات اقتصاديات الدول العظمى، وهي في الوقت نفسه دبلوماسية تجارية ذكية تحقق الكثير من المصالح السياسية والمالية لتلك الدول، والضغط على الحكومات التي تختار شراء أسلحة من دول منافسة بحرمانها من تكنولوجيا معينة حسّاسة، أو دمج الأسلحة التي صدّرتها لها مسبقاً، وأنظمة التشفير مع السلاح الجديد الذي تنوي شراؤه من الدولة المنافسة، ولربما ُربطت الصفقات بدعم أشخاص وأحزاب حاكمة قائمة للاستمرار في دفة الحكم، أو الحصول على تسهيلات مالية معينة!
ولا أعتقد أن منظمة التجارة العالمية تملك أي حول أو قوة في قطع العلاقات التي تربط بين الصناعة العسكرية والسياسة والتجارة، لكون بعض برامج وصفقات التسليح تصبّ مباشرة في تعزيز الإنتاج المدني، وإنعاش الاقتصاديات المحلية في قطاعات تخصّصية ومصانع التجميع، وتحويل المواد الخام وصناعة قطع الغيار، أي أنّ هناك حوافز متداخلة كقيام شركة بوينج بتأجير طائرات بوينج المدنية 767 للأغراض العسكرية بتكلفة 26 مليار دولار، وهي مصالح تتحدى كل القواعد التجارية التقليدية، والقواعد بصورة عامة تتغير وُتعدّل لتكون متحيزة لصالح الأقوياء.
ويتم بين الحين والآخر الحديث عن الصفقات الفاسدة مثل صفقة الأسلحة مقابل النفط أو الغاز التي تبرمها بعض الدول، وتكون نتيجتها مؤثرة على قواعد السلوك الدولية وسنّ قوانين واتفاقيات دولية تدعو بدون جدوى للالتزام بمعايير صارمة، وذلك على غرار "ضريبة توبين" العسكرية المفروضة على كل صفقة عسكرية عبر الحدود، والتي من المفترض أن ُتستخدم أموالها في برامج الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتحويل الصناعات الدفاعية إلى الإنتاج غير العسكري، ولكن يحمي استثناء المصالح القومية دعم البلدان للإنتاج العسكري من قواعد التجارة الدولية، ويأخذ إنتاج الأسلحة ومبيعاتها في جميع أنحاء العالم مساراً تصاعدياً بتشجيع من السياسات الوطنية، وتحميها المؤسسات المالية الدولية، وتنظر بلدان أخرى إلى الإنتاج العسكري باعتباره الحبل المتدلي الذي سيخرجها من الصعوبات الاقتصادية الحالية، والإعانات الحكومية غالباً ما ينتج عنها أسلحة أرخص، كما وتتنافس الشركات ضد بعضها البعض على أساس عالمي لإنتاج المنتجات الأرخص والأكثر ربحية.
وتمثّل غالبية مبيعات الأسلحة جزءًا من التحالفات العالمية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى غيرها من التحالفات وذلك بذريعة الأمن القومي، كما وتتدخل الحكومات مرارًا وتكرارًا في اقتصادياتها لتعزيز الميزة التنافسية لمنتجيها العسكريين، وُيستخدم سلاح تأمين الطاقة والمصادر الخام في العالم كمحرّك محوري لتسليح دول العالم، والدخول في عملية تسليح كوني، وجعل التسليح أساس التوازن الإقليمي في كل مناطق العالم.