شهدت المملكة المغربية أرضاً وشعباً زيارة «خادم الأمل» المشرفة، التي جمعت قداسة البابا فرنسيس مع جلالة الملك محمد السادس خلال الأيام القليلة الماضية، هذه البلد التي حمل كل شبر فيها مسؤولية «الإنسانية»، حتى أضحت محطة رئيسة في طريق التواصل بين الإسلام والمسيحية، وانعكاساً لقادتها الذين لا يتهربون من مسؤولياتهم إزاء قضايا العصر الكبرى، متفقون على «كلمة سواء».
وفي هذا السياق تتجلى جهود البابا فرنسيس واجتهاده في الحفاظ على التناغم والوئام ورصانة جسور المحبة والحوار بين أتباع الأديان، فضلاً عن تموقعها البارز والراسخ في سطور سيرته العابقة بالإخلاص والوفاء لكل بني البشر، والتي تضم جهوده المخلصة لإحلال السلام والمحبة، إذ تأتي زيارته إلى الرباط والدار البيضاء، بعد أقل من شهر على زيارته التاريخية المشبعة بـ «الأخوة» إلى الإمارات.
وتأتي هذه الجهود الملفتة للأنظار والمنعشة للعقول، انسجاماً للنداء العالمي الذي أطلقه من أجل «الإخاء»، قائلاً في رسالته بمناسبة عيد الميلاد: «أمنيتي في هذا العام هي رغبة في الأخوَّة. الإخاء بين الأشخاص من كل أمة وثقافة، الأخوة بين أصحاب الأفكار المختلفة الذين يمكنهم احترام بعضهم بعضاً والاستماع لبعضهم بعضاً، الأخوة بين الأشخاص من مختلف الأديان». وفي مقابل هذه الجهود العظيمة، والإرادة الناصعة، من قبل قداسة البابا «خادم الأمل»، ورجال هذا العالم بحق، منهم العقلاء والحكماء والشغوفون بتعظيم رسالة الله على الأرض من خلال تجميع السواعد والأنفس على المحبة والتعايش والتسامح، وإعمار الأرض بالخير، تكرس مساعيهم سمواً فوق كل العثرات المغرضة التي يحاول أصحاب القلوب الكفيفة تشويه صفاء هذا العالم بأفكارها المسمومة، ليجدوا نتاج تلك المساعي الشريفة، منتجةً تكاتفاً عالمياً يجعل من المجتمعات قلباً بالنبض ذاته، وعيناً مبصرةً للحق وروحاً مرسخة لمعاني تقارب المجتمعات وتناغمها كافةً:«جئتكم كحاج للسلام والأخوة في عالم ما أحوجه إلى هذه القيم»
بهذه الكلمات حلّ البابا فرنسيس في المملكة المغربية.
ومن أبرز ما يميز هذه الزيارة، أنها تنبت براعمها على الأراضي المغربية الأصيلة، بعدما ثبتت جذورها الراسخة في العلاقة بين أتباع الأديان، باعتبارها طريقاً للحوار بين الحضارات، وعاملاً أول في إنعاش نبض تآخي البشرية وتحقيق وئامها، فضلاً عن كونها تمثل نواة خصبة وبناءة لتشجيع ومأسسة «الحوار بين الأديان»، وبخاصة في ظل الجهود الحثيثة المقدمة من العاهل المغربي الذي ينظر لوطنه كحزبه الوحيد الذي ينتمي له، وللإنسان كثروته الأغنى، فيقول: «إذا كان الله تعالى قد وهب لكل بلد نصيبه من الثروات والخيرات، فإنه سبحانه قد أنعم على المغرب بثروة متجددة وهي مواردنا البشرية»، كما يركز على انخراط المغرب في دائرة الحوار العالمي وفي فسحة التسامح والتعايش بين الأديان، مشدداً على الدوام بأهمية الحوار الهادئ بين المفكرين المغاربة والعرب والعالميين، لمناقشة القضايا الكبرى التي توحّد جميع أتباع الأديان السماوية حول مبادئ التعايش والتسامح، والتي يؤمن بأنها روح الإسلام وجوهره.
وللمغرب سطور حافلة في العلاقات الدولية الهادفة إلى تثبيت هذا الحوار وتطويره وبناء الثقافة الواسعة، في ظل صون المبادئ والثوابت، ودمجها في منظومة «القيم الإنسانية المشتركة» بشقيها الديني والحضاري، رغم ما تواجهه من رهانات الهجرة العابرة والمقيمة، وسيطرة الجهات الإرهابية للتغلغل والتوسع، استغلالاً لوجودها الممتد من شريط خط الصحراء من تندوف إلى تشاد مروراً من صحراء الجزائر ومالي والنيجر وغيرها، ولكن للمغرب إرادة لا تخفت بإرساء وتثبيت قواعد الحوار بين الأديان والثقافات، وتهيئ فضاء خصباً للتعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وبخاصة أن العالم لا يزال بأمس الحاجة للحوار العقلاني والمنفتح، ونحن لا نزال نقف على أعتاب مجزرة نيوزيلاندا، التي شهدت تصاعد أحداثها واختلاط المشاعر وردود الأفعال، ولكنها توحدت بصورة فريدة ومعوزة على تحدي التطرف والكراهية، وبناء جسور التعايش والتكاتف كالبنيان المرصوص.
وخطت هذه الزيارة حروفها النفيسة استكمالاً للدرب الذي تتعاضد به جهود حكماء الفاتيكان، وامتداداً لزيارة بابا الفاتيكان بولس إلى المغرب في سنة 1985، لنشهد لقاء بين زعيمين روحيين «أمير المؤمنين رئيس دولة المغرب وقداسة بابا الفاتيكان»، دفعاً بإنموذج التدين الراشد وإدارة المغرب للتنوع الديني والثقافي عبر التاريخ وإجلالاً لمواقف المغرب الراسخة والحافظة للإنسانية من دون النظر للاختلاف والتعددية إلا كثروة، إلى أن يقول في حفل الاستقبال، «وبهذه الصفة - أمير المؤمنين - لا يمكنني الحديث عن أرض الإسلام، وكأنه لا وجود هنا لغير المسلمين، فأنا الضامن لحرية ممارسة الديانات السماوية، وأنا المؤتمن على حماية اليهود المغاربة، والمسيحيين القادمين من الدول الأخرى الذين يعيشون في المغرب». لتكتمل الزيارة بإطلاق نداء الضمير الإنساني العالمي لفك عزلة القدس الشريف مهبط الأنبياء والرسل الكرام، لتلعب دورها الطبيعي مدينة مقدسة وأرضاً للقاء. فحيّا على السلام وحيّا على مدينة السلام.