لم أستغرب إعلان الرئيس الأميركي اعترافه بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، فبعد أن نقل السفارة الأميركية إلى القدس دون أن يجد رد فعل يجلجل الرفض، بات سهلاً عليه أن يهدي إسرائيل ما يشاء من أرض العرب، وأنا أتفهم أن العرب غير قادرين حالياً على اتخاذ أي موقف جاد من أي اعتداء على حقوقهم، فهم على صعيد الأمة في حالة ضعف وتشتت، ولاسيما أن إيران تعلن مشروعها الكبير في استعادة الإمبراطورية الفارسية، ومد نفوذها على الأرض العربية، وهي اليوم تستولي عملياً على السيادة في العراق وسوريا ولبنان، وتسعى للسيطرة على اليمن، وتمد أذرعها بالقوة الناعمة في بلدان عربية أخرى، وكان من سوء حظ العرب أن نتائج ما سميناه (الربيع العربي) جاءت كارثية، حيث لم يستطع النظام العربي الذي عصفت به رياح التغيير أن يحافظ على بقائه وسطوته إلا باقتلاع شعوبه، وتدمير قواها التي هي قوته الحقيقية، وبات مستعداً أن يتنازل عن سيادته وعن حريته بدل أن يعطي شعبه شيئاً من الحرية التي طالب بها.
ولقد تحقق لإسرائيل هدف كبير حين بدأ السوريون يقارنون بين معاملة إسرائيل للفلسطينيين الذين يقاومونها، وبين معاملة النظام السوري للسوريين الذين طالبوه بالكرامة والحرية، والمفجع أن المقارنة جاءت لصالح إسرائيل.
ولقد جاء التدخل الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن ليهدي إسرائيل (صفقة القرن الحقيقية) وهي (تهميش الصراع العربي الإسرائيلي) وبدء مرحلة (الصراع السني الشيعي)، وما يزال كثير من المثقفين العرب، يحذرون من تصديق المخاوف الإسرائيلية من الوعيد الإيراني، وهي التي احتلت بيروت ذات يوم لتطرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، ولتحل مكانهم «حزب الله» الإيراني عملياً، وأن تقبل بأن يكون هو القوة النافذة في لبنان، وأن تخوص معه حروب ترويض وسيطرة، وقد كشفت إسرائيل أن مشكلتها مع إيران في جنوب سوريا حالياً هي في المسافة وليست في الوجود.
إذن، هذا هو الوقت المناسب كما رأى ترامب لإهداء إسرائيل هدية أميركية أخرى، رغم أنها هدية رمزية، فالجولان أرض عربية سورية تحتلها إسرائيل وتسيطر عليها منذ عام 1967 والعالم كله لا يعترف بشرعية هذا الاحتلال حتى لو تحدت الولايات المتحدة كل الشرائع الدينية والمدنية والإنسانية وقرارات الأمم المتحدة، فحين تمتلك الأمة العربية قدرتها على استعادة حقوقها لن يوقفها اعتراف دولة ما بشرعية السرقة أو العدوان، وما دامت الأمة لا تمتلك هذه القدرة، فسواء اعترفت الولايات المتحدة أو لم تعترف فإن الأمر سيان على الصعيد العملي، ولنا تجربة كبيرة مع حالة المستوطنات التي كانت تقلق كل من تعاقبوا على منصب وزارة الخارجية الأمريكية، ونذكر (جيمس بيكر) الذي كتب كثيراً عن ذلك، واستنكر إصرار إسرائيل على التوسع في بناء المستوطنات، لكن إسرائيل لم يكن يعنيها الرفض الأميركي الإعلامي، وكل ما في الأمر، أن ساسة الولايات المتحدة السابقون كانوا يراعون مشاعر العرب إلى حد ما، وبخاصة الرئيس (كلينتون) الذي حرص على أن يجد حلاً يتوج به عهده، وقد سعى بجدية لحل قضية الجولان، والتقى بحافظ الأسد في جنيف لإحياء وديعة رابين، لكنه أخفق في تحقيق ذلك.
أما الرئيس ترامب، فهو واضح جداً، وهو يعلن أن اهتمامه الوحيد هو إرضاء إسرائيل، والحفاظ على أمنها، واعترافه بسيادة إسرائيل على أرض مغتصبة بالقوة، هو حقاً هدية انتخابية لنتنياهو، ولا يوجد لها أي معنى حقوقي، لكنها بالمقابل أحيت في الذاكرة السورية والعربية والإنسانية حق الشعب السوري في استعادة أرضه المحتلة في وقت يخشى فيه السوريون ضياع سوريا كلها، كما أن هذا الإعلان وما سبقه من نقل السفارة الأميركية إلى القدس أفقد الولايات المتحدة دورها في التوسط الفاعل بين العرب وإسرائيل لإيجاد حل سياسي، هو وحده الذي يضمن أمن إسرائيل إن شاءت أن تكون في حالة طبيعية وسط الأمة العربية، التي أعلنت قبولها بالسلام عبر مبادرة شهيرة، لأن الاعتماد على القوة الغاشمة حتى لو استمر الضعف العربي عقوداً لن يزيل مخاوف إسرائيل على المدى الاستراتيجي، وهي تعلم أنها تسرق حقوق الآخرين وتعتدي عليهم، ومهما امتلكت من القوى العسكرية والمساندة الدولية، فلن تمتلك الشرعية، ولاسيما أن الأجيال الشابة تتوارث الحفاظ على الحق العربي، وتدافع عنه حتى ولو بسكينة مطبخ، ولا يموت حق وراءه مطالب.