الأسبوع الماضي في مدريد، أخبرني مسؤول سياسي بارز أنه كان يراقب أزمة بريكسيت بذهول متزايد. وأردف وهو يهز رأسه: «إن بريطانيا هي أم البرلمانات. ولفترة طويلة كنا نتخذ منها مثالاً يحتذى به». كما أعرب صديق إيطالي وصل لندن بالقطار في رحلة متأخرة، بسبب إضراب ضباط الجمارك الفرنسيين في محطة «جار دي نور» بباريس، عن دهشته، وقال: «نعتقد أن ديمقراطياتنا ضعيفة، في أماكن أخرى في أوروبا. لكن حتى لو أخذت مجموعة من الإيطاليين والبولنديين والمجريين، وأبقيتهم مستيقظين طول الليل وجعلتهم في حالة من السكر، فلن يفعلوا شيئاً كارثياً كالذي نشهده في مجلس العموم».
ومرة أخرى أُجريَّ تصويتٌ آخرَ صنع التاريخَ: فأول من أمس الثلاثاء، رفض البرلمان البريطاني، مجدداً، ترتيباً كان من شأنه أن يمنح بريطانيا فترة انتقالية سلسة للخروج من الاتحاد الأوروبي. كانت صفقة لم ترضِ أحداً، لكن البعض اعتبرها وسيلةً للخروج من المأزق. والحقيقة أن البريطانيين صوتوا بهامش ضئيل لمغادرة الاتحاد الأوروبي، لكنهم لم يتفقوا إطلاقاً على أي نوع من العلاقات التي يجب أن تحل محل ذلك. وقد مر أكثر من عامين، ازدادت خلالهما الخلافات عمقاً ومرارةً. والآن، من دون صفقة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، فإن الخيارات سيئة للغاية. إما أن تجد بريطانيا نفسها خارج الاتحاد الأوروبي في الـ29 من مارس الجاري، من دون فترة انتقالية ومن دون معاهدات على الإطلاق، أو أن يتم تأجيل اتفاق بريكسيت.
لكن قبل أن نصل إلى تلك اللحظة، حري بنا أن نتوقف للتفكير في الأضرار التي حدثت بالفعل جراء كارثة بريكسيت، ولا أعني الأضرار التي لحقت بالاقتصاد. فالأسوأ من ذلك هو الضرر الذي لحق بسمعة بريطانيا كلاعب دولي، وكمفاوض كفؤ في المعاهدات، وحليف موثوق، وكصوت للمنطق في العالم، وكديمقراطية تمثيلية. ليس فقط أصدقائي في إسبانيا وإيطاليا هم مَن يشعرون بالدهشة؛ بل في جميع أنحاء أوروبا، يعيد الناس تقييم وجهات نظرهم بشأن بريطانيا، وسياستها وساستها. منذ إجراء الاستفتاء في عام 2016، تم شغل جميع الوظائف الرئيسة للتفاوض بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من قبل الأشخاص الذين شاركوا في الحملات الانتخابية لصالح بريكسيت. وعالمياً، تبين أنهم غير مطلعين وأنهم من الدرجة الثانية. لقد كان المفاوضون الأوروبيون في بروكسل، الذين اعتادوا على الدبلوماسيين البريطانيين المحنكين، مندهشين من مدى ضعف الاستعداد لدى مفاوضي البريكسيت، ومدى ضعف فهمهم بشأن أوروبا، والمعاهدات والتجارة. وسيمر وقت طويل قبل أن يفترضوا مجدداً بأن بريطانيا دولة جادة يحسب لها حساب.
وعلى المدى الطويل، ربما يكون الضرر الذي لحق بالديمقراطية البريطانية داخل بريطانيا أسوأ. فالعرض المدهش لعدم الكفاءة والأصوات المهزومة والتفسيرات المشوشة والحالة المستمرة من عدم اليقين.. لن تزيد الاحترام الذي كان يكنه الناس للسياسة أو الساسة. ولن يلهمهم للتصويت، أو الانخراط في الحياة العامة أو احترام أولئك الذين يفعلون ذلك. وفي ديسمبر الماضي، أدلى السير «إيفان روجرز»، السفير البريطاني السابق لدى الاتحاد الأوروبي، بخطاب أعلن فيه أن «النقاش الدائر في هذا البلد –من جميع الجوانب- ما زال يعاني من كل أنواع الأوهام والخيالات وخداع الذات». وقال إن السياسيين البريطانيين «لم يعد بوسعهم الإفلات من التبختر واللغط أو من الضجيج والانفعال. لقد حان الوقت للاستيقاظ من الحلم ومواجهة الحقائق». وبعد مرور ثلاثة أشهر، لا يزال الحلم مستمراً، ولم تتم مواجهة الحقائق. والمشكلة ليست في أوروبا، بل في البرلمان البريطاني العاجز عن تقرير ما يريد القيام به.
ومن الأسباب التي جعلت العديد من الناخبين البريطانيين يختارون مغادرة الاتحاد الأوروبي، عدم ثقتهم في المؤسسات الأوروبية. ومن بين جميع تكاليف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هذا الذي لم أتوقعه: أن الأمر قد ينتهي بتدمير إيمان الأمة بمؤسساتها الوطنية، أيضاً.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»