بعد نقاش عنيف في الكونجرس وداخل المجتمع الأميركي نفسه، أجاز المجلس في الأسبوع الماضي قراراً يدين مناهضة السامية، «أي العداء لليهود»، وأيضاً غيرها من التحيزات العنصرية ضد الإسلام أو الأقليات الأخرى مثل الأميركيين من أصول أفريقية أو من أصول أميركية - لاتينية أو ما يعرف بالإسبان الأميركيين. جاء التصويت بأغلبية ساحقة: 407 مؤيدين وعارضه 23 صوتاً فقط.
ما مغزى هذا القرار الذي شغل الرأي العام الأميركي وحتى قد يكون له صدى في أوروبا وتقلده؟ ثم مامدى علاقته بما يعرف بالحلم الأميركي الذي يستمر الحديث عنه منذ نشأة الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر وحتى الآن؟ ولنبدأ بالحلم الأميركي لأنه أساس في فهم متعمق لقرار مجلس النواب الأميركي. الحلم الأميركي American Dream، هو باختصار شديد أن هذه القارة الجديدة منذ اكتشاف كولمبس في القرن السادس عشر لها، واستقرار المهاجرين فيها على مر العصور وحتى الآن، وأيضاً في المستقبل هي أرض الفرص غير المحدودة التي تسمح للفرد بالابتكار والإبداع لكي يتقدم دون قيود وإلى ما لا نهاية.
قدراته هي التي تحدد إنجازاته، والنظام السياسي والاجتماعي لا يجب أن يعوقه، بل يكفل هذا الإبداع والابتكار من أجل تقدم المجتمع نفسه. أميركا إذن أرض الأحلام، حيث حرية الفرد وتقدمه أساس تقدم المجتمع وازدهاره.
ثم إن تحول أميركا من مستعمرة بريطانية لتكون القوة الأعظم في العالم يصب في تأييد أساسيات هذا الحلم الأميركي ويزيد من مصداقية عدم تأييد حرية الفرد وقدرته على الابتكار والإبداع. وحقيقة قراءة العديد من المذكرات عن تطور حياة المهاجرين -حتي الجدد نسبيا- يؤكد هذا الباب المفتوح علي مصراعيه للوصول إلى أعلى المراتب في جميع المجالات بما فيها المجال السياسي، حتي غير المولود في أميركا يستطيع أن يصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية.
كما يعرف معظمنا أيضاً يحتوي التاريخ الأميركي على بعض التطرف في تأييد هذا المبدأ، كالحرية مثلاً في امتلاك السلاح وانتشار العنف. وبالرغم من رغبة معظم الأميركيين في وقف هذا الشطط، إلا أنهم على غير استعداد إطلاقاً للمساس بمبدأ الحرية الفردية، هم مستعدون لدفع ضريبة الشطط، إذا كان هذا هو الثمن للمحافظة على أساس النظام الأميركي: أي حرية الفرد.
أين هذا الحلم الأميركي من تصويت الكونجرس الأسبوع الماضي؟ الغريب أن من ينتقد إسرائيل داخل الكونجرس الأميركي يتهم بمعاداة السامية أو الجنس اليهودي، وهو حقيقة سلاح فتاك يعاني منه كل من يجرؤ على انتقاد إسرائيل، وبالتالي اصطف الكونجرس فوراً لدرء هذه التهمة عن أعماله، رغم معرفة العديد داخل أنفسهم أن اللوبي الإسرائيلي هو فعلاً من أقوى جماعات الضغط في الولايات المتحدة، كما أوضح ذلك منذ عدة أعوام خبيران من جامعتي هارفارد وشيكاغو في كتابهما المعروف عن الموضوع.
عودة لقرار الكونجرس، وهل خسر من ينتقدون إسرائيل وممارساتها داخل الكونجرس قصتهم؟ ليس بالضبط. فقد تم تعديل القرار لكي لا يقتصر على مناهضة السامية فقط، بل يدين التعصب ضد الإسلام والمسلمين. اللافت أيضاً أن نائبا مثل بيرني ساندرز، أحد مرشحي الحزب «الديمقراطي» للرئاسة ضد ترامب في سنة 2016، هو يهودي، أعلن صراحة تأييده، قائلاً إنه لا يجب تقييد حرية التعبير ولا يجب دمغ كل من ينتقد اليمين الإسرائيلي ونتيناهو بالعداء للسامية، هذا السيف المسلط على رقبة كل من يجرؤ على التساؤل عن تطرف الإدارات الأميركية دون استثناء - في دعمها للسياسات الإسرائيلية مهما كانت تكلفتها المالية والسياسية. وهكذا تبدأ مرحلة جديدة في هذا الموضوع.
*أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية بالجامعة الأميركية- القاهرة