«هل لا تزال أوروبا مسيحية؟»، ذلك هو السؤال الذي يتناوله عالم الاجتماع الفرنسي «أوليفييه روا» في كتاب جديد يحمل ذلك الاستفهام كعنوان له.
الإشكالية ليست جديدة في الأبحاث الاجتماعية السياسية، لكنها عادت بقوة في السنوات الأخيرة نتيجة لتنامي النزعات الشعبوية التي تستند للهوية المسيحية لأوروبا في خطابها الأيديولوجي، إلى حد اعتقاد البعض أننا أمام حركة إحياء ديني حقيقي في العالم المسيحي الأوربي.
المفارقة التي يبرزها «روا» هي أن تحول المسيحية إلى عنصر محوري في الخطاب السياسي للنزعات الشعبوية الأوربية الجديدة، هو مظهر رئيسي من مظاهر الانحسار الديني للمسيحية بتحولها من عقيدة إيمانية ونسق عقدي قيمي إلى مجرد قاعدة متخيلة للهوية، في سياق نقاش يتحكم فيه بصورة ملتبسة موضوع الإسلام المرتبط بحركة الهجرة والجماعات المتطرفة العنيفة.
ما يرفضه «روا» هو الأطروحة التي تذهب إلى أن المسيحية لا تزال تشكل قاعدة ثقافية عميقة للمجتمعات المسيحية الأوربية، وهو يرى أن التصور الذي يعتقد بأن الحداثة لم تتجاوز علمنة القيم الدينية (أطروحة كارل شميت) متجاوز حالياً، ذلك أن قيم الحرية والاستمتاع اللامحدود والفردية المنغلقة على نفسها.. شكلت واقعاً انتروبولوجياً جديداً لا يتلاءم مع الاعتبارات القيمية المسيحية، بحيث لم يعد من الممكن القول بأن المسيحية لا تزال تؤطر معيارياً القيم المشتركة الجماعية في أوروبا.
قد يكون تحليل «روا» دقيقاً في مجال التحليل الاجتماعي السياسي، لكنه يحتاج للمساءلة والنقد من زاوية النظر الانتروبولوجي العميق والتفكير الفلسفي الدقيق.
في هذا السياق، نشير إلى الأبحاث الأخيرة التي رجعت إلى مسار تشكل المفاهيم والمعايير الاقتصادية والسياسية الحديثة في علاقتها بالحقل اللاهوتي والديني، وقد صاغ نتائجها فلسفياً الفيلسوف الإيطالي «جورجيو اغامبن» الذي بين أن المقاربة التدبيرية بالمفهوم الاقتصادي للشأن العمومي، ترجع لخلفيات لاهوتية تتعلق بعقيدة التجسد والتثليث، أي الارتباط بين سيادة مطلقة غائبة وتسيير عملي لوعي الأفراد وأجسادهم تم تمديده من الحقل الكنسي إلى جسم الدولة الحديثة.
بل إن اغامبن يرى بأن الاقتصاد الرأسمالي الحديث القائم على مفهوم الثقة والقرض، له خلفيات لاهوتية واضحة ترجع إلى التصور القيمي المسيحي للواجب الأخلاقي من حيث هو تسديد لدين (بفتح الدال) قبْلي يطوق الإنسان، لا ممارسة الفضيلة في ذاتها أو سعياً للسعادة حسب المفاهيم اليونانية القديمة.
وما نشهده راهناً من قيام نزعات شعبوية في عصر وسائل الاتصال الرقمية عدّه المفكر الفرنسي «رجيس دوبريه» انتقالا من الكاثوليكية (أو الكاثو لائكية) التي قامت على الصلابة المؤسسية والزمنية الطويلة والشبكات العمودية، إلى نمط من البروتستانتية الجديدة يقوم على عقيدة الشفافية المطلقة وما يواكبها من قيم الحركية والتعالق الأفقي والاستمتاع الفردي طريقاً للخلاص الجماعي. وهكذا تحل الحركة السياسية محل الحزب السياسي والسيلان المتدفق محل المخزن والعقد بالمفهوم التجاري محل القانون، ويصبح نموذج رب العمل المسير هو نموذج السياسي الذي لم يعد هو المقاوم (كما في النصف الأول من القرن العشرين) ولا المناضل كما في الديمقراطيات الحزبية المتأزمة حالياً.
إن هذا الحفر البعيد في الخلفيات الانتروبولوجية العميقة للنموذج الغربي الحديث القائم على الرأسمالية الليبرالية، يفسر جزئياً الإشكال المطروح في الدراسات الاجتماعية حول استعصاء تصدير هذا النموذج خارج السياق الأوروبي وامتداده الطبيعي في أميركا الشمالية.
فمع أن العديد من البلدان نجح في تجربة الانتقال نحو الرأسمالية الليبرالية (أهمها اليابان والهند)، فإن هذا الانتقال لم يواكبه تحول نوعي في المرجعيات الثقافية والقيمية، إلى حد الحديث المشروع عن الأنماط المتمايزة من الليبراليات والرأسماليات على المستوى العالمي.
في بلدان أخرى نجحت تجربة الاندماج في المنظومة الرأسمالية المعولمة دون اعتماد القيم والنظم الليبرالية، كما هو شأن الصين التي أصبحت تنافس الولايات المتحدة الأميركية على قلب العولمة الاقتصادية.
ما نخلص إليه هو أنه إذا كانت المسيحية قد انحسرت في المجتمعات الأوربية، دينياً وقيمياً، فإنها لا تزال تشكل المتخيل الثقافي العميق للممارسات السياسية والاقتصادية. بيد أن أزمة المنظومة الرأسمالية الليبرالية التي تعيشها هذه المجتمعات هي في منطقها العميق أزمة جوهرية تطال هذا المتخيل الديني نفسه، بما يفسر المطالبة التي عبّر عنها الفيلسوف الألماني هابرماس وغيره بعودة الدين إلى المجال العمومي لشحذ الوعي القيمي في سياق تهدده النزعة الطبيعية الخارجة عن التحكم، والتي هي نمط من النكوص للوثنية ما قبل التوحيدية.