يمثل مقاتلو تنظيم «داعش» الأوروبيون المحتجزون في سوريا معضلةً لدولهم حتى بعد هزيمته. قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من المنطقة التي تحتجزهم «قوات سوريا الديمقراطية» فيها شرقي الفرات، يفرض تحديد مصيرهم، وكيفية التعاطي معهم. طلب الرئيس ترامب من دولهم أن تتسلمهم وتحاكمهم. ولم يكن تلويحه بإطلاق سراحهم، إذا لم تتحرك هذه الدول لتتسلمهم، إلا تعبيراً مجازياً عن خطر ينبغي عدم التهاون به. وعبّر مسؤول في «قوات سوريا الديمقراطية» عن أحد أشكال هذا الخطر عندما نبّه إلى احتمال هروبهم إذا نفذت تركيا تهديدها بشن هجوم في شرق الفرات.
يبلغ عدد هؤلاء المقاتلين بين ثمانمئة وألف، فضلاً عن 1500 طفل و700 امرأة. ويبدو رفض الدول التي ينتمون إليها، تسلمهم مدهشاً لكثير من متابعي تطور الأوضاع في سوريا. ولا يتصور بعضهم أن تخاف دولة من أشخاص محتجزين ومهزومين.
غير أن لهذه الدول منطقها في مسألة شائكة من الناحية القانونية. فالمفترض أن تشرع أية دولة تتسلم أشخاصاً مارسوا عملاً إرهابياً في محاكمتهم، لكن هذه المحاكمة قد لا تسفر عن إدانة كثير منهم، بل ربما يكون هذا هو الأرجح لثلاثة أسباب: الأول أن القوانين المعمول بها في هذه الدول تمنح أي شخص يُحاكم فيها ضمانات تتيح له الإفلات من العقاب، ما لم تتوافر أدلة قاطعة لا يرقى إليها الشك، ويمكن إدانته بموجبها. والثاني أن محاكمة مقاتلي «داعش» في دولهم الأوروبية ستجري وفق القانون العادي، وفي إطار المنظومة القضائية الطبيعية، وليس وفق قانون الحرب، لذا تريد هذه الدول محاكمتهم في سوريا أو العراق، حيث خاضوا حرباً أعلنها تنظيمهم وهُزموا فيها. أما إذا أُعيدوا إلى بلادهم، فستُطبق عليهم قاعدة أن قوانين القتال لا تسري في محاكمات ما بعد الحروب. وهناك سبب ثالث بالغ الأهمية، وهو أن محاكمتهم بعيداً عن مكان الجرائم الإرهابية التي ارتكبوها، يحول دون جمع الأدلة اللازمة لإدانتهم، وإحضار الشهود الذين يمكن أن يؤكدوا ضلوعهم في هذه الجرائم. ولذا، سيكون صعباً، بل مستحيلاً في كثير من الأحيان، أن يقدم الادعاءُ أدلة تكفي لإقناع القضاة بإدانتهم حالَ محاكمتهم في أية دولة أوروبية.
والحال أن الدول التي ينتمي إليها دواعش محتجزون في سوريا، سيكون عليها أن تتسلمهم بلا معلومات كافية عنهم، ومن دون تحقيقات أُجريت معهم. وحتى إذا كانت السلطة الذاتية التابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» في شرق الفرات أجرت تحقيقات معهم، فلن يتيسر اعتمادها من الناحية القانونية، لأن هذه السلطة لا تمثل دولة، وليست كياناً حكومياً معترفاً به من المجتمع الدولي. ولذا لن يقبل القضاء الأوروبي نتائج تحقيقات أُجريت بواسطة سلطة أمر واقع، وفي ظروف غير معلومة لديه. كما ترفض هذه الدول تسليمهم إلى نظام الرئيس بشار الأسد، لأنها لا تثق فيه، وتخشى أن يستخدمهم لابتزازها، بدلاً من تخليصها منهم.
أما العدد الكبير من زوجات «الدواعش» الأوروبيين وأطفالهم المحتجزين معهم، فلا تستطيع هذه الدول تسلمهم في المدى القصير على الأقل، لأنها بحاجة إلى معلومات موثوقة عنهم تمكنها من فرزهم. فقد جند التنظيم عدداً غير قليل من الأطفال في أعمار بين 12 و17 عاماً، وتلقوا تدريبات عسكرية، وشارك بعضهم في القتال. وتحتاج هذه الدول معلومات موثوقة تتيح الفصل بين هؤلاء وغيرهم. كما أن بين زوجات «الدواعش» الأوروبيين من ارتكبن جرائم إرهابية أو شاركن فيها، فضلاً عن أن كثيرات منهن ذهبن إلى سوريا لاقتناعهن بما فعله «داعش». فلسن كلهن زوجات عاديات.
والمتوقع، والحال هكذا، أن تمتنع الدول الأوروبية عن تسلم دواعشها المحتجزين في سوريا، سواء أكانوا مقاتلين أم زوجات وأطفالاً، وأن تتعامل معهم وفق كل حالة على حدة، وأن تتسلم مَن تحصل على معلومات تكفي لإدانتهم، أو تدل على إمكان إعادة دمجهم في المجتمعات في حال عدم وجود أدلة قاطعة تدينهم.
والأرجح ألاَّ يتوافر هذا الشرط سوى في عدد قليل منهم. ولذا، سيكون على الولايات المتحدة في النهاية أن تلجأ إلى ما يُعد ملاذاً أخيراً، وهو إرسال من تمتنع دولهم عن تسلمهم إلى قاعدة جوانتنامو العسكرية الأميركية المشهورة في كوبا.