أزمات منطقة الشرق الأوسط ليست وحدها التي تهدد السلام والأمن في العالم، لكنها تبدو أكثر خطراً من غيرها لسببين؛ أولهما أن إيران تتدخل في الأزمتين الأكثر سخونة في الشرق الأوسط، الأزمة السورية والأزمة اليمنية، لدعم نفوذها وسياساتها التي يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها مصدر تهديد للسلام والأمن في العالم. أما السبب الثاني فهو أن أزمات الشرق الأوسط، التي اندلعت عام 2011، لم يهدأ معظمها حتى اليوم، في حين أن أزمات أخرى في العالم تتفاوت حدتها من وقت لآخر، فتتصاعد حيناً وتهدأ في معظم الأحيان. خذ مثلاً الأزمة الأوكرانية التي تصاعدت في ديسمبر 2018 عندما اعترضت البحرية الروسية سفناً أوكرانية في مضيق كيرتش، وأسرت بحارة كانوا على متنها. فقد ازدادت حدتها لفترة لم تتجاوز ثلاثة أسابيع، لكنها لم تلبث أن هدأت، وعادت نارها تحت الرماد، الأمر الذي يقلل الشعور بخطرها رغم موقعها المتقدم في الاستراتيجيتين الروسية والأميركية على حد سواء.
كما شهدت أزمة كوريا الشمالية انتقالاً سريعاً من تصعيد قرَّبها من حافة الهاوية أواخر 2017 إلى تهدئة منذ منتصف العام الماضي. ورغم أن هذه التهدئة ارتبطت بتفاهمات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وتقارب غير مسبوق بين الكوريتين، مازال فتيل الأزمة قابلاً للاشتعال في أي وقت. فلم تقترن التهدئة بتحقيق تقدم ملموس حتى الآن. ولم يظهر بعد ما يدل على أن كوريا الشمالية تتجه إلى تجميد برنامجيها النووي والصاروخي، ناهيك عن إلغائهما، ولا على أن الولايات المتحدة تتجه لتخفيف العقوبات، أو سحب قواتها في كوريا الجنوبية، أو وقف المناورات العسكرية الدورية التي تُجريها معها بصورة نهائية. وليس متوقعاً أن تؤدي القمة الثانية المنتظرة بين الرئيس الأميركي ترامب، ورئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون، إلى تغيير كبير يضع الأزمة على طريق الحل النهائي.
ورغم أن وتيرة الصراع في منطقة بحر الصين الجنوبي ظلت منخفضة خلال الفترة الأخيرة، باستثناء لحظات قليلة بدا فيها أنها قابلة للارتفاع، تظل عوامل تصاعدها كامنة مادام خوف فيتنام وتايوان والفلبين وماليزيا من توسيع الصين نفوذها في هذه المنطقة يزداد، وطالما أن قلق الولايات المتحدة من تنامي قوة بكين العسكرية يتنامى.
ولا يخفى أن ذلك القلق يُعد أحد عوامل الخطر الجديد الذي بات يهدد العالم منذ إعلان الولايات المتحدة تعليق الالتزام بمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى ‏(INF) في الأول من فبراير الجاري، تمهيداً لإلغائها بعد ستة أشهر، ورد روسيا بالمثل. وتشمل هذه المعاهدة، الموقعة في فبراير 1987 بين ريجان وجورباتشوف، الصواريخ التي يتراوح مدى إطلاقها بين 500 و5500 كم، وكذلك القاذفات والمعدات الإضافية المرتبطة بها.
كانت مقدمات هذا الانسحاب بادية منذ عدة أشهر. وفي المقالة المنشورة هنا يوم الأربعاء 6 نوفمبر 2018 تحت عنوان «سباق التسلح.. إلى أين؟»، توقع كاتب السطور أن ينفذ ترامب تهديده بالانسحاب من هذه المعاهدة ما لم تتفق واشنطن وموسكو على تعديلها بطريقة تقبلها إدارته وتتيح استمرار العمل بها، وتفتح الباب أمام انضمام دول أخرى إليها، وخاصة الصين. وقد فشلت محاولات إجراء هذا التعديل، والتي كان آخرها في لقاء شهدته بكين في 29 يناير الماضي.
وهكذا، يخسر العالم الآن إنجازاً كبيراً سبق تحقيقه في مجال الحد من التسلح، ومحاصرة خطر التوسع فيه. وتعني هذه الخسارة وضع العالم أمام خطر سباق تسلح جديد قد يصبح أخطر مما حدث خلال مرحلة الحرب الباردة. وهذا ما هدد به الرئيس الروسي بوتين في 18 ديسمبر الماضي عندما صرح بأن موسكو تستطيع إنتاج صواريخ متوسطة المدى، ونشرها خلال فترة قصيرة، حال إلغاء المعاهدة. والأكثر خطراً من تهديد بوتين هذا إعلان رئيس الأركان في الجيش الروسي أن موسكو ستستهدف أية دولة يتم نصب صواريخ أميركية متوسطة المدى فيها.
وهكذا يبدو العالم على أعتاب إطلاق سباق جديد لإنتاج أسلحة حظرتها معاهدة يتجه طرفاها إلى إلغائها، ومن ثم ازدياد احتمال نشوب مواجهة أميركية روسية، في حالة حدوث خطأ في التقدير أو الحسابات من جانب أحد الطرفين، أو كليهما، فضلاً عن تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين على خلفية قلق إدارة ترامب من توسع نفوذ بكين العسكري.