اليوم أفتح معكم باب الحِجاج ليسهم في تغيير الكثير من جمود التمترس خلف الأفكار الذاتية المقولبة في إطار من القداسة التاريخية للكثير من الأفكار التي تؤذي العالم ولا تكرس للحوار. نحن نحتاج للحوار كي نفهم ونتقبل الآخر ونحترم اختلافاتنا. أزمتنا في العالم كله أننا نفقد تلك اللغة المشتركة للتقارب والتواؤم مع الآخر. كيف يمكن أن يتحقق ذلك للأجيال الناشئة التي تحمل مستقبل العالم من دون أن تكون لهم القوة المنطقية في الحوار مع الآخر، ومواجهة فصاحة بعض المنغلقين على أفكارهم السلبية الهادمة لكل ما هو خارج إطار معتقدهم الإيماني والفكري.
مر الحجاج تاريخياً بعدة تقلبات انتمائية بداية من انتمائه الفلسفي ثم المنطقي ثم تحوله حديثا للانتماء لعلم النفس وعلوم البلاغة واللغة متحررا من النخبوية الفكرية إلى الربط ما بينه وبين الحياة اليومية للإنسان البسيط، ومن التعريفات التي وردت عن الِحجاج حديثاً ما قاله برلمان (الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد من درجة التسليم).
وهنا نجد أنفسنا أمام خلط يحدث كثيراً ما بين مفهوم الِحجاج ومفهوم البرهان، هذا الخلط يقع فيه الإنسان المثقف غير المتخصص، وهذا هو هدفنا من كل ما نقدم من فكر فما قيمة الفكر ما لم يصل للإنسان المثقف غير الأكاديمي، والذي يكون أكثر التصاقاً بالمجتمع، بالتالي أكثر تأثيراً فيه، فإن نجحت النخبة الفكرية في زرع المفاهيم الصحيحة في عقله، نضمن بذلك انتقالها نحو العقل الجمعي للمجتمعات من خلال مثقفيها، ويظل هناك فارق جوهري ما بين البرهان والِحجاج وهو الحوار، فالبرهان لا يتطلب حواراً واتصالاً ما بين القائم على برهنة قضية ما أو فكر ما وما بين الجمهور كما هو الحال في القضايا العلمية والنظريات الرياضية والمنطقية كونه يتعرض لقضايا علمية حقيقية قد لا تقبل التأويلات لذلك يظل دور المتلقي سلبياً. أما الحجاج، فهو يشترط وجود حوار بين الأطراف يعتمد على الطرح والتساؤل والإجابة والبلاغة اللغوية البسيطة التي تقترب من ثقافة الجمهور. فالِحجاج يقدم رؤية وليست حقيقة علمية لا تقبل التأويل توضح «جاكلين روس» (البرهان: هو عملية عقلية تثبت استدلالياً حقيقة قضية، وهكذا يكون التسلسل المنطقي في الجبر والهندسة برهانياً خالصاً والحجاج: إنه جملة من الطرق الخطابية التي تستخدم في سبيل الحصول على موافقة أذهان الجمهور على أطروحة معينة)، لذلك كي يكون الِحجاج ناجحاً، لابد من وجود حوار ما بين المحاجِج والجمهور، من هنا ننتقل إلى شعبوية مثل هذه القيمة الفلسفية العميقة فحين نفكر نلقي نظرية شاملة على عصرنا نجد أن الِحجاج وسيلة حاضرة بممارستها في كافة حياتنا اليومية وغائبة كمفهوم وإدراك ووعي لتطوير القدرات الِحجاجية للمجتمعات وخاصة العربية التي تواجه حالة من تفشي الأفكار الغريبة خلال الفترة الماضية ليس من أبناء الحضارة الغربية فقط، بل من أبناء الحضارة والثقافة العربية، وحين نتجول في شبكات التواصل الاجتماعي نشاهد حجم الِحجاج الذي يحدث يومياً على الصفحات ما بين أنصار فكرة ما ومعارضيها، ومن خلال قوة الإدراك لمفهوم الحِجاج وآلياته، استطاع المتطرفون أصحاب الفكر «الداعشي» أن يجندوا الشباب المغيب الذي لا يحمل من الوعي الكافي والمعرفة لمقارعة الحجج التي يسوقها هؤلاء المتطرفون من خلال قوتهم الِِحجاجية، لذلك الانتقال بالِحجاج وآلياته إلى الإنسان العادي والبسيط أصبح مطلوباً بشكل قوي خلال السنوات الأخيرة لتجنب حالة التوغل الفكري للتطرف في عقول الشباب والأجيال الناشئة، ولا نجد طريقاً لهذا إلا التعليم.
يفترض المفكر «فيليب بروتون» أن في الفعل الِحجاجي يكون الشخص الذي يخضع له مدركاً أنه مندمج في موقف تواصلي، لذلك لابد أن ندرك العلاقة ما بين الِحجاج والتواصل لذلك الِحجاج لا يخرج من إطار عناصر التواصل والمعروفة بنموذج شانون للتواصل (مرسل – رسالة – مستقبل)، لكن ببعض التفاصيل، فالِحجاج يحتاج بداية أن تكون الرسالة ذات علاقة مباشرة بفكر واهتمام الطرف الآخر أو المستقبِل، فمن دون ذلك سنحتاج لمجهود لتحفيز عقل الآخر في الوصول لقناعة أن هذا الأمر يهمه ولابد من الحوار حوله والاقتناع به. وعملية التواصل الحجاجي كما صنفها «بروتون»، وسماها بالمثلث الِحجاجي، تتشكل من رأي الخطيب والخطيب والحجة التي يدافع عنها الخطيب. وذلك المثلث نجده واضحا في النماذج الِحجاجية البسيطة التي نتعرض لها في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت تسيطر على العالم ففي عام 2017 قامت الشركة الإعلامية We Are Social ومنصة إدارة حسابات التواصل الاجتماعي Hootsuite بعمل دراسة حول مستخدمي شبكة التواصل الاجتماعي حول العالم فرصدت الدراسة 3 مليارات شخص يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم أي أكثر من 40% من سكان العالم، وهذا الرقم في تزايد مستمر من هذا الرقم ندرك الدور الخطير المهم جداً الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي في خلق نماذج اتصال بين البشر، ومما لا شك فيه سنجد الملايين من العلاقات الحجاجية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في توجهات المجتمعات من خلال التأثير في التوجهات الفكرية للأفراد، ولا ننسى الدور الذي تلعبه شبكات التواصل الإجتماعي في توجيه الأحداث السياسية في الاتجاه التي يريده من يعبث بعقول المجتمعات باستخدام النماذج النفسية والمنطقية الحجاجية في ذلك والتي من أخطرها ما يستخدمه الكثير من المتحدثين والتي تعتمد على الإقناع بواسطة التأثير القسري، وتتطلب بالضبط حمل المتلقي على أنه يعتقد أن له كامل الحرية في الاختيار لكن هو في حقيقة الأمر يسير جبراً في طريق نحو هدف واحد وهو القناعة بما يقدمه المحاجج.
نحن ندرك الآن أن التواصل الإنساني أصبح متسعاً بحجم العالم من خلال وسائط الاتصال المختلفة، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي وأن تأثيرها على توجهات المجتمعات الفكرية والثقافية مهم جداً، لذلك لابد من وضع إطار تعليمي نعمل من خلاله على تقوية المهارات الِحجاجية للشباب، وخاصة في مجتمعاتنا العربية، والتي تتعرض لهجوم حاد من العقول الظلامية، لذلك فإنني أدعو لتدريس الحجاج كمادة مستقلة في المدارس داخل الدولة، بل أتخطى بتوصيتي هذه دولة الإمارات العربية المتحدة وأدعو بها لكامل المنطقة العربية، وألفت النظر إلى أن هناك قليلاً من الدول العربية تعتمد الفلسفة والمنطق والحجاج جزءاً من مناهجها التعليمية، ولكنها لم تحصن شبابها من تأثير ما يواجهونه على شبكات التواصل الاجتماعي بشكل كافٍ، لذلك لابد أن ندرك أن هناك خللاً ما في طريقة تدريسها يحتاج إلى الدراسة والتحليل، لذلك لابد من وضع إطار استراتيجي لتنمية القدرات الحجاجية للطلاب.