في عام 1971، قضيت أنا وأسرتي بعض الوقت في لندن في طريقنا إلى لبنان، حيث ذهبت إلى زيارة عائلتي ولإجراء بعض الأبحاث تتعلق بأطروحتي لنيل درجة الدكتوراه. وقد كانت هذه هي زيارتي الأولى خارج الولايات المتحدة. وهكذا، بينما كنت في المملكة المتحدة، قرأت أكبر عدد من الصحف اليومية البريطانية كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وفعلت ذلك لأنني أردت أن أعرف الأحداث التي تشكل الحياة اليومية، وفهم نظرة الناس في هذه المدينة إلى العالم.
ومثلما اتضح بعد ذلك، كان عام 1971 حافلاً بالأحداث. فقد وقعت «اضطرابات» في أيرلندا الشمالية، وصراع عرقي قبلي في نيجيريا، وتوترات بين الهند وباكستان، وانقلاب مضاد في السودان، وأعمال شغب في جنوب أفريقيا، أضف إلى ذلك أعمال العنف الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
وما أتذكره بشأن التغطية الصحافية البريطانية حينئذ، سواء أكان ذلك على صعيد الأخبار أو التعليقات أو المقالات الافتتاحية أو الرسوم الكاريكاتيرية السياسية، مدى ازدرائها أو حتى عنصريتها تجاه جلّ تلك الأحداث. وكان من الشائع عدم إبداء الاحترام للأطراف المتنازعة في تلك الدول. وكان يُنظر إلى الصراعات في حد ذاتها على أنها «شيء مؤسف لكن متوقع».. باعتبارها سلوك متوقع من شعوب غير متحضرة.
ولم أدرك أن البريطانيين كانوا قد لعبوا دوراً كبيراً في تفاقم كل تلك الصراعات والتوترات، حتى أوشكت إقامتي في لندن على الانتهاء. فقد كانوا آنذاك قوة استعمارية في كل تلك الدول، وكانت ممارستهم إما محاباة أحد الأطراف المحلية على حساب الآخرين، أو إقامة أنظمة استيطانية لمساعدتها على الحكم. وعندما أصبحت الفوضى التي أوجدوها خارجة عن سيطرتهم، قفزوا من السفينة تاركين «السكان» أو «السكان» و«المستوطنين» لمصيرهم.
ولعلّ أكثر ما كان يؤرق بشأن تلك التغطيات الصحافية البريطانية أنها كانت تفتقر افتقاراً تاماً لإدراك الذات، ورفضها للاعتراف بتورط بريطانيا في تلك المآسي التي ساعدت في حدوثها، والازدراء الذي أظهرته تجاه ضحايا سياساتها.
ومع وجود بعض الاختلافات، وقعت أمور مماثلة من قبل الفرنسيين في شمال أفريقيا والشام، وكذلك الهيمنة على أميركا الوسطى واستغلالها من قبل الولايات المتحدة.
وبينما هيمن البريطانيون والفرنسيون على مناطق شاسعة ضمن إمبراطوريتيهما واستعمرتاها واستغلتاها اقتصادياً، إلا أنهما اعتبرتا أيضاً أن من دورهما نشر «حضارتيهما». وقد نما ذلك إلى علمي في 1970 أثناء حضوري دورة تعليمية مكثّفة في اللغة العربية بجامعة بنسلفانيا. وتفاجأت عندما علمت أن معظم الطلاب في صفي كانوا جزائريين! وعلمت من خلالهم الطريقة التي حكم بها الفرنسيون الجزائر، والتي كان يُشار إليها في بعض الأحيان تهكماً بـ«الجانب الآخر من فرنسا»، خصوصاً أن الفرنسيين حاولوا عبثاً محو كل شيء يتعلق بالتاريخ والثقافة وحتى اللغة العربية.
وأما الدور الاستعماري الأميركي مع دول جوارنا في الجنوب فكان مختلفاً. فلم نستعمرها، ولم نستوطن فيها أو نحاول فرض ثقافتنا. وإنما رضينا بالهيمنة الاقتصادية على تلك المناطق، واستغلال مواردها، وضمان أن أية حكومات ستصل إلى السلطة فيها ستكون خاضعة «لمصالحنا». وبسبب ذلك الإرث المخزي والنهج الاستعماري، يقشعر بدني عندما أسمع زعماء سياسيين في الغرب يقولون «قيمنا»، والتي يشيرون بها عادة إلى حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية الدينية. فقد كانت تلك القيم هي بالتحديد ما حُرمت منها الشعوب المستعمرة، التي سُرقت مقدراتها، وزُعزعت بلدانها، وتم التلاعب بحياتهم وإفقارهم من أجل الحفاظ على الهيمنة.
وإذا نظرنا إلى العالم في الوقت الراهن، فمن الواضح أن تبعات ذلك الإرث الاستعماري لا تزال حاضرة معنا. وإذا كان من شيء قد تغير فهو أننا الآن لم نعد نعتبر أولئك «المواطنين» السابقين باعتبارهم غرباء بعيدين. فهم الآن يعيشون داخل حدودنا، بعد أن جاؤوا بحثاً عن الفرص التي حرموا منها في وطنهم. لذا، عندما أسمع ردود الفعل في الغرب على تدفق مواطني دول جنوب آسيا إلى المملكة المتحدة أو أشخاص من شمال أفريقيا إلى فرنسا أو مهاجرين من دول أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة، لا يسعني أن أقول سوى «أن هذا ثمار ما زرعتموه».
وما يتعين علينا في الغرب الآن هو أن نقرّ بتاريخنا. ولاريب أن نتائج فهمنا كيف وصلنا نحن والعالم إلى ما أصبحنا عليه اليوم ستساعدنا في إلقاء الضوء على طريقة تعاملنا مع العالم بازدراء. ولعلّ توجيه السؤال لأنفسنا ومن هيمنّا على مقدراتهم لمعرفة كيف وصلنا إلى هذه الفوضى هي الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح لإيجاد سبيلنا للخروج منها.