شهدت القمة العالمية للحكومات التي استضافتها دبي في الفترة بين يومي 10 و12 من فبراير الجاري، توسعاً في محاورها لهذه السنة، وقد أضحت الحدث الأبرز على مستوى المنطقة، والأول من نوعه على مستوى العالم فيما يتعلق بالدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل واستباق التحديات والجهوزية للمستجدات. ونعلم أن استشراف المستقبل هو نوع من الدراسات المستقبلية، وهناك من يراها «علماً» وهناك من يراها «فنّاً»، وأخيراً هناك من يراها وسطاً بين العلم والفن، والواقع أن الدراسات تسلك على الدوام سبيلاً مفتوحاً يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل، كما أنها شاملة ومنهجها متعدد التخصّصات وتقنياته من كل المعارف والمناهج العلمية.
والدراسات الاستشرافية المستقبلية بوصفها آلية للتخطيط تهدف أولاً إلى صياغة أطر فكرية لتحديد طبيعة المشاكل والتحديات التي تواجه التطور الإنساني في المستقبل، وثانياً إلى توجيه قرارات القادة السياسيين ووضع حلول وبدائل مستقبلية، ويتم ذلك باستعمال كثير من التقنيات المستقبلية لترشيد عملية التخطيط انطلاقاً من تحديد المشكلة إلى غاية مرحلة التنفيذ والتقييم.
ولا غرو أن القمة العالمية للحكومات انطلقت من الخصاص الذي تعاني منه المنطقة العربية في مجال استشراف المستقبل، علماً بأن الدول المتقدمة، مثل أميركا وكندا وبريطانيا وألمانيا، تستفيد من هذا النوع من الدراسات ومن المنصات المتعددة والمتواجدة فيها والتي تسمح بتتبع وتبني براديغمات عقلانية تجعل من مصلحة البلد غايتها، ولها رؤية مستقبلية في بنيتها تطغى عليها النظرة الإيجابية للمستقبل، كما تستفيد من قوة المناهج والأسس النظرية في شراكة استراتيجية مع المجتمع ومع صانع القرار، وتستفيد من قوة البحث العلمي ومكانة جامعاتها ومؤسساتها الفكرية والتربوية، وتقوم بتجذير التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي الذي يُسهم في تنمية المجتمع، كما تستفيد من قوانين الوصول إلى المعلومة دون أي قيود.. وتعمل تلك المؤسسات ضمن تقاليد العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي وقبول الخطأ والتقييد، كما تعتمد في إطار دراساتها المستقبلية على وفرة المعلومات وسعة صدر صاحب القرار وعلى تقنيات تمكّن من توسيع مساحة المشاركة في البحث.. فلو بحثت كل السياسات العمومية الناجحة في الدول الصناعية الكبرى، لوجدتها وليدة دراسات استشرافية أثّرت على صانع القرار ومنحته الأرضية الفكرية اللازمة وزودته بالسيناريوهات الممكنة، فكيّفها في سياسات وقرارات وتوجهات تتعدى مصالحه السياسية الضيقة.
وهنا سر نجاح القمة العالمية للحكومات، والتي ضمت جلساتها على مدى ثلاثة أيام أكثر من 150 متحدثاً في 200 جلسة، حضرتها أكثر من 4000 شخصية إقليمية وعالمية من 138 دولة. وفي هذا الباب، جاءت الجلسة التي حملت عنوان «التسامح الديني في بناء المدن والمجتمعات» ضمن منتديات منصة السياسة العالمية في القمة العالمية للحكومات، لإعلاء القواسم المشتركة التي تجمع بني البشر وتجاوز خطابات وسياسات الظلامية والانغلاق والكراهية ونفي الآخر. وكان البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، قد دعا في كلمته للقمة حكومات العالم إلى تأكيد التزامها في مواجهة القضايا الجوهرية؛ كالتحديات السياسية والاقتصادية والبيئية والتكنولوجية، مشدداً على المسؤولية الملقاة على عاتقنا، وهي الحفاظ على عالمنا من أي تدهور بيئي وانحطاط أخلاقي، كي نسلمه للأجيال التالية. ولفت إلى أنه يتعين على المسؤولين أن يفكروا بنوع العالم الذي يريدون بناءه، بحيث يقدّمون مصالح الناس على المصالح الاقتصادية.
وينبغي أن لا ننسى هنا قيام الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والبابا فرنسيس، وبعض القيادات الدينية والثقافية بتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في أبوظبي، والتي شكّلت حدثاً غير مسبوق من حيث ضرورة بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك للقضاء على جذور التعصب والأنانية انطلاقاً من القواسم المشتركة التي تجمع بني البشر. كما أنه انطلاقاً من المفاهيم الصحيحة والرؤى المرجعية، لا يتصور أن يتصارع الدين الإسلامي مع الدين المسيحي أو أن تتصارع الثقافة الإسلامية مع الثقافة الغربية أو الصينية، بل يمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي.