استعادت أفضل رئيسة لمجلس النواب في الأزمنة المعاصرة مكانَها مؤخراً، لتحل محل أحد أضعف مَن شغلوا المنصب. وقد استغرقت وسائل الإعلام الإخبارية وقتاً طويلاً جداً لكي تسلّط الضوء على عظمة «نانسي بيلوسي»، التي أنقذت الضمان الاجتماعي من الخصخصة، ولعبت دوراً أساسياً في الحصول على تأمين صحي لنحو 20 مليون أميركي. ولا يزال أمام وسائل الإعلام وقتاً صعباً لتواجه زيف محبوبها «بول ريان»، الذي ترك المنصب بمعدلات تأييد دون 12?. وأعتقد أن الأمر أضحى أخيراً يتسق مع الواقع بقوة.
ومن المتوقع تماماً أن تصبح «بيلوسي» رمزاً مؤثراً جداً مرة أخرى. غير أن بعض التقدميين يعترضون على واحدة من تحركاتها المبدئية. وهؤلاء المنتقدون محقون لاسيما بشأن الاقتصاد وربما السياسة. والمسألة محل الانتقاد هي قاعدة «التمويل الموازي للإنفاق»، وهي قاعدة تقتضي تعويض الزيادات في الإنفاق إما بزيادات ضريبية أو تقليص مخصصات برامج أخرى.
ومن الناحية العملية، يمكن القول إن القاعدة ليست مهمة بدرجة كبيرة، فمن ناحية هي ثابتة بموجب القانون، سواء أدرجها الديمقراطيون ضمن قواعدهم الداخلية أم لا، ومن ناحية أخرى يمكن ببساطة إسقاط هذا القانون مثلما حدث عندما سنّ الجمهوريون قانون التخفيضات الضريبية الضخمة في 2017.
غير أن تبني القاعدة كان عبارة عن إشارة بشأن أولويات الديمقراطيين، وتصريح بأن الحزب مهتم اهتماماً كبيراً بشأن عجز الموازنة وراغب في إدارة أهدافه الأخرى بحيث تتعامل مع هذا الموضوع. لكن هل هذه هي الإشارة التي يرغب الحزب في إرسالها حقاً؟
لا شك في أن جدوى القواعد المجردة والتلقائية بشأن عجز الموازنة معروف: فهي في الحقيقة فكرة سيئة، ذلك أن الهوس بشأن العجز ثبت أنه مدمّر في السنوات الماضية، لاسيما تلك التي أعقبت الأزمة المالية العالمية، إذ ساعد «المحافظون» في الدفع بتدابير تقشف أخّرت التعافي الاقتصادي لسنوات. والواقع أن اقتصادنا في الوقت الراهن ليس منكمشاً، وتأثير التقشف يكون أقل بكثير عندما تكون معدلات البطالة دون 4?، مقارنة بتأثيره عندما تكون معدلات البطالة عند أعلى من 8?. غير أن حدوث ركود آخر مسألة وقت، وربما سيحدث قريباً، وعندئذ لن تكون هناك قواعد صارمة للموازنة.
وإلى ذلك، فثمة أمور لابد أن تنفق الحكومةُ الأموالَ عليها حتى عندما تكون الوظائف وفيرة، مثل إصلاح البنية التحتية المتداعية، ومساعدة الأطفال في الحصول على تعليم مناسب، والرعاية الصحية والتغذية الملائمة للكثير من المحتاجين. ومثل هذه النفقات تحتاج إلى أموال وفيرة على المدى الطويل.
كما أن الحكومة الفيدرالية يمكنها اقتراض الأموال بأسعار فائدة زهيدة، لاسيما عند قياسها بمعدلات التضخم، فأسعار الفائدة على السندات الحكومية لأجل عشر سنوات تناهز واحداً في المئة فقط. وبالمقابل، تعكس هذه التكاليف المنخفضة للاقتراض ما يبدو وفرة في المدخرات، أي أن القطاع الخاص يرغب في الادخار أكثر من رغبته في الاستثمار، حتى في ظل انخفاض أسعار الفائدة.
وفي ضوء هذا الواقع، لماذا لا نوظف بعض تلك المدخرات الزائدة في استثمارات عامة ذات عائد مرتفع؟ وهل ينبغي علينا رفض إنفاق أموال على إصلاح أنظمة الصرف الصحي، أو توفير غذاء للأطفال.. إذا كان ذلك سيؤدي إلى زيادة طفيفة في عجز الموازنة، مع تأثير ضئيل على تكاليف الفوائد المستقبلية؟
وقد يقول البعض إن من المهم سياسياً بالنسبة للديمقراطيين أن يطرحوا أنفسهم على أنهم الحزب المسؤول مالياً؟ لكنني متشكك تماماً في ذلك. فإذا نظرنا إلى تاريخ الموازنة خلال الجيل الماضي، تبدو القصة واضحة: عندما يكون الديمقراطيون في السلطة يبذلوا جهوداً مضنية من أجل وضع ميزانية متوازنة، وعندما يتولى الجمهوريون يبعثرون الأموال على التخفيضات الضريبية من أجل الأثرياء. وبرغم ذلك، تظهِر استطلاعات الرأي بصورة مستمرة أن الحزب الجمهوري متقدم فيما يتعلق بالتعامل مع عجز الموازنة!
وإذا نظرنا إلى ما حدث بعد أن سنّ الديمقراطيون قانون الرعاية الصحية المحتملة (أوباماكير)، وذهبوا إلى أقصى الحدود من أجل تمويل الامتيازات الإضافية بزيادات ضريبية وتخفيضات في الإنفاق، نجد أن غالبية الناخبين لا يزالوا يعتقدون أن الديمقراطيين زادوا العجز. لكن لا يبدو أن الواقع مهم!
وبرغم أن الناخبين قد زعموا اكتراثهم بشأن عجز الموازنة، فإنهم ليسوا كذلك في الواقع. ولا يعني ذلك أنني أطالب الديمقراطيين بتجاهل عجز الموازنة تماماً. وإنما عليهم أن يأخذوا بالاعتبار كيفية تمويل البرامج الطموحة، مثل «رعاية طبية لجميع كبار السنّ»، عندما يكونون مستعدين لها. وفيما يبدو الانضباط المالي مطلوباً دائماً، لا يبدو من الحكمة أن يُقيّد الديمقراطيون الإنفاق، خصوصاً عندما يظهِر الجمهوريون انعدام المسؤولية تماماً.

*أكاديمي وكاتب أميركي حائز جائزة نوبل في الاقتصاد
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

 https://www.nytimes.com/2019/01/03/opinion/house-democrats-budget-deficit.html