هي دعوى نقيضة تظهر في لحظات تاريخية معينة، عندما يستحيل العمل ثم يأتي النظر تعويضاً عن هذا العجز، وتفريغاً للطاقة في ميدان آخر أكثر أماناً. عندما تنسد طرق العمل لا تجد الطاقة أمامها إلا أن تظهر في النظر كطريق فرعي حتى ينزاح السد، وتعود الطاقة إلى مسارها الطبيعي في العالم من خلال الفعل الإنساني.
في الحضارة الإسلامية صحيح أن أول ما نزل من القرآن «اقرأ»، لكن القراءة لا تعني التعرف على خطوط المكتوب فحسب، فقد كان جبريل يعلم أن الرسول أمي لا يقرأ ولا يكتب. وإنما القراءة هي التعرف على أفعال الله في الطبيعة: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق». والقراءة فعل تعليم علم: «اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم». والنظر في القرآن ليس مجرد تأمل ومعرفة نظرية، بل هو إبصار ونظر بالعين. ليس فكراً مجرداً بل هو إعمال للحس، نظر للطبيعة والناس. وهو بداية السلوك والتوجيه في العالم، وليس التأمل النظري الخالص.
ودعوة القرآن إلى طلب البرهان، «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، إنما هي تحدٍ، لاستحالة وجود البرهان على الكذب والبهتان. وعندما يدعو القرآن إلى التعقل: «أفلا تعقلون»، وإلى التفكر: «أفلا تفكرون».. فإن القصد هو الاعتبار والعظة، أي دلالة الواقع للاستفادة به في الحياة العملية، وليس تشييد بناء نظري خالص كبديل عن الواقع.
المرة الوحيدة التي ور فيها فعل «التفكر» مقرونا بالقرار وبالفعل هي: «إنه فكر وقدر»، وفيما عدا ذلك كان «التفكر» يعني التدبر في آيات الله في الكون: و«إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»، والتفكر «في خلق السموات والأرض» وفي الناس: «أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة»، وفي النفس: «أو لم يتفكروا في أنفسهم».
وقد ورد لفظ «العقل» في القرآن أكثر ما ورد بصيغة استفهام استنكاري: أفلا تعقلون؟ وفي المضارع أكثر من الماضي كحقيقة ثابتة أبدية وليس كحقيقة زمانية ماضية. وبالإضافة إلى الصيغة الاستفهامية الاستنكارية، هناك أيضاً صيغة التمني: «لعلكم تعقلون»، والصيغة الشرطية: «إن كنتم تعقلون».
ولعل الأهم هو الموضوع الذي يفكر فيه العقل.. حيث يأتي كلام الله أولاً، ثم الآخرة والطبيعة ثانياً، ثم المجتمع والأحداث التاريخية ثالثاً، ومن بعدها الأفعال والأمثال والوصايا.
ويتطلب العقل الفعلَ، أي عدم أمر الناس بالبر دون فعل ذلك: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون». والعقل النظري هو الذي يوجه العقل العملي ويمنع من الضلال: «ولقد أضل منكم جبلا كثيراً أفلم تكونوا تعقلون».
وإذا صح ما يرويه الصوفية من أن «أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أقبِل فأقبلَ، أدبِر فأدبرَ، وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك»، فإن العقل هنا يكون هو العقل العملي، أي العقل الإرادي الذي يطيع ويقرر ويتصرف.
والدعوة إلى التفكير في ذات الله وفي مخلوقاته إنما هي دعوة إلى التفكير في الطبيعة من أجل اكتشاف قوانينها والسيطرة عليها من أجل إعمارها، والتوجه إلى ما هو أنفع وأكثر يقيناً. فخبر الواحد يعطي معرفة ظنية، لكنه يؤسس عملا يقينياً.
والفكر تفكر، أي فكر منعكس على الذات، أي تأمل وتدبر. والفكر تفكير في النفس وهو التفكر. وهو أيضاً تفكر في الطبيعة والكون.
وقد ورد لفظ «عقل» في الحديث الشريف بمعناه الاشتقاقي الحسي: عقل البعير أي ربطه. فالعقل رباط وعلاقة وليس ذهناً فارغاً يهيم في أي واد، بل هو عقل موجه نحو غاية. وفي غياب العقل يكون الجنون والبلاهة والغباء.
والعقل للكلمات وللكتب، أي للمقروء أو المدون. ويفهم بالعقل والقلب. والعقل للشعائر والعبادات لفهم دلالاتها ومقاصدها. وأفضل إنسان ذلك الذي اجتمع فيه العقل والنسك.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة