تعدّ زيارة قداسة بابا الفاتيكان للدولة فصلاً في كتاب الحضارة الإماراتية المشرقة، فالإمارات ليست كبعض دول المنطقة التي تحتضن أمكنةً أو أبنيةً أو شواهد مقدّسة تاريخياً لدى الأخوة المسيحيين، وينتمي عدد ليس بالقليل من أهلها إلى المسيحية، لتأتي زيارة البابا لها في سياق تاريخي وروحي.
القلوب إذن تهفو إلى الإمارات للسمعة الطيبة التي تحظى بها، وهي سمعةٌ لم تأت من فراغ، بل إن الفراغ يعني أن الحرية الدينية غير مكفولة، إذ لا بد أن تعبّد الطريق أمام الجميع ليتمتعوا بحرية ممارسة أديانهم، بمعنى أن الاكتفاء بترك الآخر وما يعتقد، لا يعني أنك ضمنت له حرية ممارسة دينه، بل لا بد أن تتخذ مواقف يستند إليها ليمارس عباداته وطقوسه.
وفي هذا المقال استعراضٌ لوجه من أوجه التسامح الديني في الإمارات، وهو وجه قلما يُذكر، ألا وهو موقف القانون والقضاء من العلاقات الأسرية للمقيمين في الإمارات من غير المسلمين، خصوصاً أن ثمة بُعداً دينياً في العلاقات الأسرية في مختلف الثقافات، وهي ليست مثل العلاقات الأخرى بين البشر التي تنظمها قوانين مدنية بحتة، بمعنى أن القانون الذي ينظّم العلاقة بين المؤجر والمستأجر في إيطاليا مثلاً، لا يختلف كثيراً عن القانون الذي ينظّم تلك العلاقة في الإمارات، لكن الأمر مختلف بشأن العلاقات الأسرية والقوانين المنظّمة لها.
ورغم عدم وجود محاكم للأسرة لغير المسلمين، وهو أمر صعب توفيره نظراً للتنوّع الشديد في ديانات وملل المقيمين في الإمارات، فإن محاكم الأسرة، واستناداً إلى قانون الأحوال الإماراتي، تعطي الحق لغير المسلم في المطالبة بتطبيق قانون بلاده، والقاضي الإماراتي ينزل نصوص ذلك القانون على الدعوى ويفصل فيها بناء على أحكامه. وكل ما هنالك، أنه لو وُجد نص في القانون الأجنبي يؤدي تطبيقه إلى الإخلال بالأسس الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية في الدولة، فإن القاضي يستبعده من مجال التطبيق، ويجري بقية النصوص على الدعوى. ولمزيد من الإيضاح، ففي دعوى لأبٍ هندي الجنسية هندوسي الديانة ضد زوجة ابنه المتوفى، طالب فيها بنصيبه من تركته، وحيث أن القانون الهندي الهندوسي ينصّ على توزيع تركة مَن يتوفى عن أبٍ وأمٍ وزوجة، بالنصف للأم، والنصف للزوجة، فقد حكم القاضي بموجب ذلك القانون، رغم أنه على خلاف تعيين الورثة وتحديد أنصبتهم في القانون الإماراتي. وفي دعوى بين زوجين لبنانيين من طائفة الروم الأرثوذكس، نصّ القانون الخاص بهذه الملّة على حق طلب الزوجة الطلاق في حال اتهمها زوجها بعدم الإخلاص ولم يُقم الدليل على ذلك، وهذا يندرج بحسب قانون الأحوال الشخصية الإماراتي تحت حالات التطليق للضرر والشقاق، وانتهى القاضي إلى الحكم بتطليق الزوجة لعجز الزوج عن إثبات ما ادّعاه. وفي دعوى بين مصري أرثوذكسي تحوّل إلى الكاثوليكية بعد زواجه بمصرية أرثوذكسية، طالب فيها الزوج بإثبات طلاقه منها، وكان القانون الواجب التطبيق قانون الزوج، ورُفضت دعواه لأن الطلاق غير جائز لدى الكاثوليك.
وهكذا تمتلأ مكاتب القضاة بقوانين أجنبية تطبّق على القضايا المعروضة أمامهم بالنسبة لغير المسلمين، ويمضي الجميع، إماراتيون وغير إماراتيين، مسلمون وغير مسلمين، في المساهمة في بناء حضارة تقوم على العدل والاحترام والتعايش.
*كاتب إماراتي