كيف نحل عقدة الاستقطاب السياسي المتطرف الحالي قبل أن تمزق الديمقراطية الأميركية؟ إنها قضية تمثل أحجية صعبة لأن عدداً كبيراً متنوعاً من العوامل ساهم في تصاعد الاستقطاب. فقد لعب كل من عدم المساواة وتغيير التركيبة السكانية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ونهاية الحرب الباردة دوراً في تقسيم جمهور الناخبين إلى جانبين معاديين وغير متفاهمين. وبعض هذه العوامل لا يمكن تغييرها وبعضها الآخر يبدو عصياً على الإصلاح. لكنْ هناك محرك أساسي للاستقطاب يخضع مباشرة لسيطرة السياسيين لو أنهم أدركوا هذا فحسب. وأحد أكبر عوامل الشقاق في السياسة الأميركية يتمثل في الجدل الأيدولوجي القديم بشأن الحجم الملائم للحكومة. وقد حان وقت نبذ هذا الجدل العقيم الزائف.
والمحور التقليدي الذي يدور حوله الصراع يتمثل في «تأييد الحكومة» في اليسار و«تأييد السوق» في اليمين. لكن كي ننعش الحراك الاقتصادي الأميركي الضعيف ونضمن ترجمة هذا في صورة رخاء يتم توزيعه على نطاق واسع يتعين علينا قطع خطوات جريئة في اتجاهين في وقت واحد. فيتعين علينا الاعتماد بشكل أكبر على كل من المنافسة في السوق وعلى تأمين اجتماعي موسع أفضل هيكلاً وفاعلية. ونحتاج إلى نشاط حكومي أكبر لندعم الفرص وأيضاً حوكمة أقل فساداً وأكثر التزاماً بالقانون. وكي نعرف هذه الحاجات وأفضل طريقة لتلبيتها، يتعين علينا وضع عدسات أيدولوجية جديدة تنظر إلى الحكومة والسوق ليس باعتبارهما أعداء ونقيضين بل متكاملين بالضرورة.

وفي مركز «نيسكانين» البحثي الذي تأسس في واشنطن عام 2015، نعمل على تطوير وتوضيح هذه القضية التركيبية الجديدة. وسياستنا المهجنة تستقي رؤى من اليمين واليسار على السواء وتجمع بين الوعي الليبرالي إلى الحاجة إلى حكومة نشطة مع الاعتراف بقيود ونقائص عمل الحكومة. والناتج يتمثل في نموذج من السياسة نطلق عليه دولة الرفاهية وحرية الأسواق.

والأسواق الحرة محرك لا بديل عنه في الابتكار ورفع مستويات المعيشة. لكنها ليست أداة تلقائية ذاتية التنفيذ بل تتطلب لوائح متقنة الصياغة. واللوائح الجيدة هي ما جعل فكرة آدم سميث عن «اليد الخفية» ممكنة أي تحالف المصالح الخاصة للسعي وراء الربح مع المصالح الخاصة لتنمية الثروة. وهذا ما يجعلنا ندعم فرض ضريبة على انبعاثات الكربون واشتراطات أقوى في رأس مال المؤسسات المالية. فتحقيق الربح بفرض كلفة على الآخرين يمثل فساداً في الرأسمالية وليس الرأسمالية الحقيقية. وحين يجري التلاعب باللوائح من الفاعلين في الداخل كي يستفيدوا من هذا على حساب الآخرين، فهذا يفسد الديمقراطية. وهذا يجعلنا نؤيد تقليص حمائية حقوق النشر وبراءات الاختراع وتخفيف شروط التراخيص المهنية والقيود على الإسكان الجديد.

تجعلنا الأسواق الحرة أغنى بشكل كبير مع مرور الوقت. لكن الاقتصادي «جوزيف شومبيتر» لاحظ أنها تدمر ما تصنعه في الوقت نفسه وتعرض بعض الناس لعمليات اضطراب وزعزعة استقرار قصيرة الأمد. وبرامج التأمين الاجتماعي تمثل آليات أساسية طورتها المجتمعات لتخفيف حدة هذه الاضطرابات في الحياة الاقتصادية بطريقة لا تضحي بآلية حراك المجتمع. والتأمين الاجتماعي يمثل سبباً رئيساً لـ«الحكومة الكبيرة» المعاصرة، أو بحسب العبارة التي أشاعها الاقتصادي الأميركي الحائز جائز نوبل بول كروجمان: الحكومة الحديثة هي في الأساس شركة تأمين لها جيش. وبينما تحتاج دولة الرفاهية تعديلات كبيرة للتخلص من البواعث المنحرفة والحفاظ على الاستدامة المالية، يتمثل محور الإصلاح في تحسين أداء التأمين الاجتماعي وليس الانقلاب عليه.

وما يغفل عنه هؤلاء المنتقدون لـ«المخصصات» المكلفة هو أن التأمين الاجتماعي لا يقدم تأميناً للأفراد المستفيدين فحسب، بل يحقق تأميناً أيضاً للنظام الرأسمالي ككل. فمن خلال حماية الناس من المخاطر المتضمنة في اقتصاد السوق، يحصن التأمين الاجتماعي الرأسمالية ضد الردة السياسية. والافتقار إلى الحماية الاجتماعية يدفع الحمائية في غالب الأحوال لأن تملأ الفراغ لأن الطلب المسوغ للأمن الاقتصادي يجري ترجمته في دعم شعبي للعراقيل التجارية ولوائح عمل غير مرنة وعمليات إنقاذ صناعية وعوائق أمام التكنولوجيا الجديدة. وهذا هو ما يجعل الاقتصاديات الأكثر حرية تظهر باعتبارها بصفة عامة دولة رعاية اجتماعية كبيرة، حتى في مؤشرات المؤسسات المؤيدة للسوق مثل مؤسسة «هيريتيج» ومعهد «فريزز».
ولسوء الحظ، مازال كلا الحزبين الكبيرين متعامياً عن المنطق غير الاستقطابي في دولة الرفاهية والأسواق الحرة. بل يعتزمان فيما يبدو على التسابق إلى خلل وظيفي متطرف لكل من اليمين واليسار. وعلى مدار العامين الماضيين قدم «الجمهوريون» تخفيضاً كبيراً في الضرائب للأغنياء بينما حاولوا تدمير الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية. و«الديمقراطيون» الذين خلبت لبهم دعوات الديمقراطية الاشتراكية نادوا بأفكار واضحة العطب مثل التعليم الجامعي المجاني وضمانات الوظائف والقواعد التي يشترك في وضعها العمال لمجالس إدارات الشركات. وليس من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو. فهناك طريق للتقدم بوسعه الجمع بين الأميركيين من المذاهب الأيدولوجية المختلفة ويوحدهم في السعي وراء رخاء أكبر وفرص للجميع. والخطوة الأولى على هذا الطريق تتمثل في المعرفة بوجود هذا الطريق.
برينك لينزي*
*نائب الرئيس لشؤون السياسة بـ«مركز نيسكانين» البحثي -واشنطن.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»