لا يحدث تجدد حضاري بالانقطاع عن التراث بل بالتواصل معه ونقده، وإعادة الاختيار بين البدائل فيه. لكن الانقطاع مطلب لبعض النخبة المثقفة المطلعة على النموذج الغربي، وعادة ما ينتهي بالانهيار، لأنه يتعلق بتيار متصل من الماضي إلى الحاضر تتبناه الجماهير. وتظل المسافة شاسعة بين اختيار النخبة واختيار الجماهير. وينشأ صراع على السلطة يزيد من درجة الاستقطاب بين الاختيارين. ويحسم الصراع لصالح اختيار الجماهير، فتصبح المحافظة الدينية هي التي بيدها السلطة والحكم، ليتوقف التجديد الحضاري باسم الدفاع عن الهوية ضد التغريب. ثم ينشأ تيار إصلاحي متوازن؛ تراثي مستنير وعلماني أصيل. الأول يستمد جذوره من المعتزلة وابن رشد، ومن المالكية والمصالح المرسلة أساساً للتشريع، ومن تصوف الحلاج وامتداداته السنوسية والمهدية التي واجهت الاستعمار الأوروبي الحديث.
والانفتاح على العصر لا يكون فقط باستمرار النقل من الغرب، بل بالتحول من النقل إلى الإبداع. فقد طالت الترجمة في العصر الحديث أكثر من اللازم واستمرت على مدى قرنين أي أزيد من خمسة أجيال؛ منذ الطهطاوي حتى المشروع القومي للترجمة. بينما لم تدم الترجمة القديمة (في القرن الثاني الهجري) أكثر من قرن واحد على مدى جيلين اثنين؛ جيل حنين بن إسحاق وجيل إسحاق بن حنين.. بعدها بدأ الإبداع عند الكندي فيلسوف العربي المتوفى عام 252هـ. والخطورة في استمرار الترجمة هي الاستمرار في نقل المعلومات، ونقل المعلومات شيء والعلم شيء آخر، إذ العلم هو الانتقال من المعلوم إلى المجهول. ولما كان معدل إبداع الغرب أسرع بكثير من معدل النقل عنه، تظن الحضارات الناقلة (مثل الحضارة العربية حالياً)، أنها تلحق وتسارع الزمن، بينما المسافة تتسع. وأخيراً تلهث من كثرة النقل، وترضى بدورها في التاريخ. مع أن النقل وسيلة لا غاية، مرحلة مؤقتة تؤسس للتراكم التاريخي الكافي للتحول من النقل إلى الإبداع. والنقل عن الجديد هو أحد عوامل التجدد الحضاري، بالإضافة إلى تحقيق القديم ونشره بناءً على اختيار واعٍ. ومن اجتماع النقل والتحقيق ينشأ التأليف. الترجمة الواعية تأليف غير مباشر. وكما اختار الطهطاوي منذ قرنين فلسفة التنوير وقيم العقل والحرية والمساواة ومظاهر العمران، فقد يختار المحدثون فلسفات التاريخ والتقدم، ولاهوت التحرير، وليس بالضرورة «ما بعد الحداثة» في مجتمعات تجاهد في سبيل الحداثة، أو التفكيك في مجتمع لا يزال في طور البناء، أو العدمية في مجتمع يصارع من أجل الوجود.
الترجمة ليست ادعاء الحداثة، بل صنعها طبقاً للمرحلة التاريخية التي تعيشها كل حضارة.
والتعددية الثقافية شرط أساسي للنهوض العربي الجديد، بعد أن ضاع تدريجياً عندما كبا الإصلاح. نشأت الثقافة العربية في فجر النهضة العربية باختيارات ثلاثة لتغيير الواقع وتحقيق النهضة: إعادة فهم الدين أولاً (الأفغاني)، إعادة فهم الطبيعة وقوانينها ثانياً (شبلي شميل)، وإعادة بناء الدولة ثالثاً (الطهطاوي). وعندما انهارت النهضة العربية الأولى، بدأ التعصب للرأي، واعتبر كل تيار نفسَه الفرقةَ الناجية، وزاحم التيارات الأخرى: فالصواب واحد وليس متعدداً، والزعيم واحد، ولا تداول على السلطة، وعز الحوار مع النفس قبل أن يعز مع الآخر، وتقوقع كل تيار داخل جلده الطائفي أو العرقي.
وذلك برغم أن التعددية جزء من الموروث الثقافي الدفين الذي هُمّش في التاريخ: «كلكم راد وكلكم مردود عليه»، ومبدأ تعدد الصواب، «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين». التنوع الثقافي والسياسي في الأمة العربية رصيد إيجابي لها، إذ تتحكم في ثقافتها الوطنية أربعة تيارات: الإسلامي والقومي والليبرالي والماركسي.
والسؤال: هل هذه التيارات يقصي بعضها بعضاً أم يكمله؟ هل هي قادرة على التداول والائتلاف؟