في العام الفائت (2018)، هللت أوروبا لنتائج الانتخابات الإسبانية. فقد تمكن «الحزب الاشتراكي»، ذو الهوى الأوروبي، من العودة إلى السلطة، بعد سبع سنوات متواصلة من حكم «الحزب الشعبي» المحافظ والمتفرع عن الفرانكوية. صحيح أن الاشتراكيين لم يصلوا وصولاً قوياً، بل على رأس حكومة أقلية. إلا أن المقارنة بالجارة إيطاليا، التي صوتت أكثريتها لأحزاب اليمين الشعبوي، بدت سبباً كافياً للأمل والتفاؤل.
إسبانيا، وفقاً للبعض، قد تكون اليوم في طريقها إلى تحول معاكس. التحول هذا قد يتقدم ببطء إلا أنه، في آخر المطاف، سيجعل ذاك البلد أشد تجانساً مع الوجهة الشعبوية الصاعدة في أوروبا.
كلمة السر هي حزب «فوكس» VOX أو «الصوت» (أي صوت إسبانيا) الذي تأسس في كانون الأول (ديسمبر) 2013.
مؤسسو الحزب المذكور منشقّون عن «الحزب الشعبي» المحافظ، يريدون ليمينيتهم أن تكون أشدَّ ثوريةً وراديكاليةً، لا محافظةً. قائدهم سانتياغو أباسكال أستاذ علم اجتماع شابّ من الباسك، سبق له أن أنشأ «مؤسسة الدفاع عن الأمة الإسبانية» (الاسم يملك ما يكفي من دلالات). عداؤهم حاد للنزعات الانفصالية الكاتالانية والباسكية، ورداً عليها باتوا متشددين قومياً ودولتياً، يسعون إلى إلغاء العمل بالنظام اللامركزي ووضع كل السلطات في عهدة العاصمة مدريد. مع هذا، فهم ميّالون إلى النيوليبرالية اقتصادياً، حذرون من أوروبا واتحادها برغم أنهم لا يدعون إلى مغادرته. كرههم للإسلام صريح لا يعتمد التمويه ولا التورية. فوق هذا، هم يعارضون بشدة كل مساواة جندرية ويعتبرون التشريعات التي تحمي النساء من العنف الأسَري إساءة لـ«الرجولة والأصالة الإسبانيتين». معجبون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي استعاروا منه شعاره عديم الخيال وحولوه إلى: «سوف نجعل إسبانيا عظيمة من جديد». وهم، مثل ترامب، يُفرطون في استخدام الإعلام بأنواعه وعلى نحو تشهيري ضد الخصوم. صديقتهم الكبرى زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبين.
ومنذ نشأته قبل أقل من ست سنوات، راح حزب «الصوت» يحصد الهزائم الانتخابيّة، الواحدة بعد الأخرى. لكن قبل أسابيع، وفي الانتخابات الإقليمية في أندالوسيا (الأندلس)، نال مرشحوهم 11 بالمئة من الأصوات و12 مقعداً، أي أنهم صاروا قوة يُحسب لها حساب. هكذا أُعلن قبل أيام عن ائتلاف جديد يحكم أندالوسيا ويضم حزبي يمين الوسط: «الحزب الشعبي» وحزب «مواطنين» (تأسس في 2006 وهو قوي في كاتالونيا). هذا ما يحصل للمرة الأولى منذ 1983، إذ كانت أندالوسيا إحدى قلاع الحزب الاشتراكي. لكن الخبر الأهم هو أن هذا الائتلاف، الذي لم يشارك فيه حزب «الصوت»، إنما قام بالتنسيق والتوافق معه، أي أنه أعطاه سلطةً هي في حدها الأدنى سلطة فيتو.
لقد ساهمت في تعزيز قوة «الصوت» إثارةُ موضوع الاستقلال الكاتالاني في العامين الماضيين وما استثاره من تعبئة قومية إسبانية في مواجهته. لكن أحوال أندالوسيا تبقى الأساس: فمقاطعة الحكم الذاتي هذه شهدت انتكاسة كبرى في قطاع البناء ترقى بداياتها إلى أزمة 2008، وهذا من غير أن يتحسّن أداء القطاعين الآخرين اللذين يقوم عليهما اقتصادها، أي الزراعة والخدمات. سكّانها الذين يزيد تعدادهم عن ثمانية ملايين نسمة، صاروا بين سكّان المقاطعات الأفقر في إسبانيا (المكونة من 17 مقاطعة حكم ذاتي). عاصمتها سيفيل فقدت الكثير من الزهو والبحبوحة اللذين عُرفت بهما. البطالة ارتفعت، وبما أن أندالوسيا الواقعة على البحر الأبيض المتوسّط (وأيضاً على المحيط الأطلسي) هي المحطّة الأولى التي يبلغها اللاجئون والمهاجرون، صار هؤلاء كبش الفداء السهل.
إنه سيناريو آخر يشبه معظم السيناريوهات التي عكست تنامي قوة الأحزاب الشعبوية في أوروبا. فهل يمضي المسار الإسباني إلى حيث انتهت إيطاليا والنمسا: تطبيعاً لليمين المتطرّف وإشراكاً له في إدارة الدولة؟ الجواب القاطع سابق لأوانه بالتأكيد، لكن الحذر مُلحّ.