أثبتت الأيام القليلة الماضية أن الأزمة اليمنية لن تنفرج قريباً، وأنها ستطول بأكثر مما يتصور المرء، وفي الوقت ذاته اتضح من زيارة وزير الخارجية الأميركي «مايك بومبيو» إلى المنطقة والتصريحات التي أدلى بها هو، والمبعوث الأميركي بشأن إيران «بريان هوك» أن الولايات المتحدة عازمة هذه المرة على التدخل، ومن دون أن تكرر أخطاء الماضي مرة أخرى ما معنى هذا الكلام؟
الشاهد أن المتابع للتطورات العسكرية على الأرض لا سيما بعد اتفاق ستوكهولم، يدرك جيداً أن «الحوثيين» لم يكن هدفهم الأول بالمرة التوصل إلى سلام حقيقي ينهي الأزمة، وإنما جل أمرهم هو التلاعب بالوقت والتسويف إلى أن يكتسبوا قوة جديدة يعوضون بها الخسائر التي لحقتهم في الساحل الجنوبي.
نوايا «الحوثيين» السيئة تبينت من خلال حادث الطائرة المسيرة من دون طيار في قاعدة «العند»، والتي أدت إلى اغتيال مدير الاستخبارات العسكرية اليمنية، وليت الأمر توقف عند هذا الحد إذ استمعنا إلى تصريحات تؤكد أن «الحوثيين» لا دالة لهم على السلام، فقد أشار «يحيي سريع» المتحدث باسمهم، إلى أن الحركة تقوم ببناء مخزون من الطائرات المصنعة محلياً، ومضيفاً للصحافيين في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها المتمردون، أن «الحوثيين» سيكون لديهم في القريب العاجل مخزون استراتيجي يمكنهم من تنفيذ أكثر من غارة بطائرات مسيرة في جبهات معارك متعددة في الوقت نفسه.
التصريح المتقدم يكشف عن مستقبل الإشكالية اليمنية، ويؤكد لنا أن رفض «الحوثيين» لكل أعمال المفاوضات السلمية، فهم يرتبون للمزيد من العمليات العسكرية، لكن الكذب البواح في الأحاديث «الحوثية» يحاول أن يواري أو يداري ما تقوم به إيران في تلك الرقعة الجغرافية وثيقة ولصيقة الصلة بالأمن القومي الخليجي لا سيما بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، ناهيك بالطبع عن مصر.
الكذب يتمثل في القول بتصنيع طائرات مسيرة محلية، والقاصي والداني يعلم علم اليقين أن تلك الجماعة لا معرفة علمية لها ولا قاعدة عسكرية صناعية عندها تؤهلها لهذا الأمر، وإن كل ما لديها من صواريخ بعيدة المدى أو طائرات من دون طيار هي إيرانية الصنع، وحتى من يقومون على إدارتها هم في الأصل إيرانيون، كما يتلقى «الحوثيون» تدريبات عسكرية عالية في معسكرات «حزب الله» في لبنان.
ولعل التقارير الاستخبارية الدولية تؤكد أن الحرس الثوري الإيراني قد ضمن وصول طائرات إيرانية موجهة عن بعد إلى اليمن وسوريا والعراق، لقدرتها على الاستهداف النسبي، وتكلفتها المالية المتدنية، وقدرتها على قتل أعداد من الأشخاص المستهدفين.
على أن ما جرى في قاعدة العند اليمنية الأيام الماضية يُبين لنا كارثة أخرى، لاسيما وأن الأمر يتصل بما هو أكثر من الحصول على تلك الطائرات، بل بإمكانية وصولهم أيضاً إلى المزيد من صور الأقمار الاصطناعية غير مفتوحة المصدر، ما يعني أن طهران تزودهم بمعلومات استخبارية لازمة لتنفيذ هكذا هجمات.
والمؤكد أن إيران حددت فرصة مبكرة في اليمن وقبل الحرب بوقت طويل واستغلتها بفجاجة ظاهرة للعيان، من أجل خلق كابوس للأمن القومي في الفناء الخلفي للخليج العربي بنوع خاص ولمصر أيضاً، الأمر الذي يمكن تفهمه ضمن سياق رقعة الشطرنج الإدراكية التي تسابق فيها طهران الزمن من أجل تحقيق تطلعاتها للهيمنة والسيطرة في المنطقة أو لتقاسم النفوذ مع القوى الكبرى الفاعلة غير العربية.
خلال زيارته تحدث الوزير بومبيو بالقول إننا نقدم المساعدة لشركائنا لأخذ زمام المبادرة، في منع التوسع الإيراني الذي سيكون كارثياً للتجارة العالمية والأمن الإقليمي، وهو ما يعكس تفهماً أميركياً واضحاً وصريحاً لما تقوم به إيران، وقد جاء اتفاق ستوكهولم ليضع العالم برمته أمام نوايا «الحوثيين» الحقيقية، والتي يدركها جيداً قادة التحالف العربي، ومع ذلك فقد مضوا بعيداً إلى آخر الدرب ليضعوا المجتمع الدولي أمام حقيقة هذه الجماعة المارقة.
التصريح الآخر لـ«بريان هوك» كان الأشد تفسيراً، إذ أكد أن واشنطن لن تسمح بتحويل اليمن إلى لبنان ثانية، وأن إدارة ترامب لن توفر جهداً في قطع الطريق على إيران لتكرار تجربة «حزب الله» في لبنان، ونقلها بحذافيرها إلى اليمن التي أنفقت ملايين الدولارات في توفير المعدات القتالية لـ«الحوثيين» وتدريبهم على القتال.
قبل بضعة أيام كان المتحدث باسم جماعة الحوثي «محمد عبد السلام»، ورئيس وفدها في لجان الإشراف على وقف إطلاق النار، يتهم الجنرال الهولندي المتقاعد «باتريك كيمارت» بأنه لا يطبق اتفاق السويد، بل يعمد إلى تنفيذ أجندة ثانية لديه، الأمر غير الصحيح جملة وتفصيلاً، ذلك أن الطرف الذي يحاول فعلاً إجهاض الاتفاق هو الجانب «الحوثي» عبر خروقات تمثلت في الهجمات الصاروخية المستمرة، والانتشار العسكري في شوارع المدينة، عطفاً على عمليات القنص، وحفر الخنادق، وإقامة حواجز أسمنتية، وصولاً إلى قطع وصول المساعدات الغذائية الدولية إلى نحو 14 مليون جائع يمني.
الخلاصة‏ .. الحرب وأدوات العسكرة وسيلة جيدة للتفاوض حين تفشل حوارات القاعات المكيفة، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها «الحوثيون».