تبرز في عالمنا الإسلامي في الوقت الحاضر معضلة التركيز على إحياء إسلام التاريخ والتدوين في محاولات لإيجاد حلول جذرية لمشاكل متجددة في الفكر الإسلامي، والله عز وجل الذي أنزل الكتاب موضحاً مبيّناً فيه العقائد والحق من الباطل والنافع من الضار والحلال والحرام، وما يقرّب إلى اللَّه ويوصل إلى جنته، وما يبعِد عن اللَّه ويوصل إلى سخطه وناره، وكل هذا مفصّلاً في القرآن الكريم، وإنْ كان في القرآن بعض الآيات المتشابهات فإنها تردّ إلى المحكمات، ويعرف إيضاحها بِردها إلى المحكمات.
فهل هناك أمر مفصلي من صلاح الدنيا والآخرة لم ينزل به وحي! ويقول الله عز وجل في محكم كتابه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ} (البقرة 217)، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ} (البقرة219). والسؤال هنا: لماذا لم يجب عليهم الرسول الكريم مباشرةً ما دام يوحى إليه في غير نصوص القرآن الكريم؟ فالعقل المسلم الناقد يرى أن الرسول نذير وبشير وينشر الحكمة لأتباعه، وهو رحمة للعالمين وقدوة للمؤمنين، يتبع ويطاع فيما يأمر به وبما لا يخالف نص القرآن فيما حلله الله وحرّمه على عباده، وهو لا ينطق عن الهوى عندما ينقل ما أنزل عليه بوحي. أما في باقي أمور الحياة الاعتيادية، فهو يتصرّف من دون وحي، وهو معصوم عن الكبائر والفواحش وما يغضب الله من عباده، ولكنه قد يصيب أو يطلب رأي أهل المشورة في كثير من أمور الدنيا ويشيرون عليه ويأخذ برأيهم وهو الصحيح.
ويذكر في صحيح البخاري عن البراء بن عَزب أن آخر سورة نزلت هي سورة (براءة)، وإن آخر آية نزلت كانت في سورة المائدة وهي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ? إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ? وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ? فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ? وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ? يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ? وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (176)، أي أن الرسول الكريم لم يكن يفتي المسلمين بغير نصٍ صريح، وهم جاءوا يطلبون الفتوى من الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى ونزل عليه الوحي أنك لا تفتي بل الله الذي يفتيهم، ولا يشك مسلم بأن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعاً.
فبعد الانتقال من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد القهّار لم يغادر العقل الإنساني الحقبة التاريخية التي تقول بأن الإيمان يحتاج لصنم ووسيط يصل من خلاله للرب الذي أوجد الوجود وله ممثلون على الأرض، والإنسان منذ البداية بطبيعته البشرية لم يكن يقتنع بأن عبادة الخالق تتم مباشرة دون وسيط، وهي عادة وثنية جاهلية ورّثها العقل العربي لباقي المسلمين، فكانت ضرورة وجود رموز دينية تفسر وحدها الدين وتفهمه ومن خلالها فقط تصل الرسالة للشخص العادي، وقد منح هذا النمط في قراءة النص المقدس المتمثل في القرآن الكريم بتقسيماته الداخلية سلطة مطلقة لرجل الدين التقليدي، ومراكز حماية الدين من مختلف المذاهب والفرق.
والواقع نصب أعيننا هو وجود إسلام يبحث عن مسلمين، ويوصف المسلمون البعيدون عن تعقيدات الفكر والمذاهب على أنهم يمارسون الإسلام بصورة بدائية، مع أنها هي الفطرة الأولى لكل مسلم، وهي الأصل في الدين وليس ما جاء به البشر! والسؤال المنطقيّ هنا: هل أطلق رسولنا الكريم وصحابته ومن جاء بعدهم بمائة سنة على أنفسهم مسميات وأوصاف للفصل العنصري المذهبي! وربطها بالوحي الفكري الذي تساوى مع الوحي المنزّل في تناقض يعاني منه المسلم ليومنا هذا! وجعل التفسير مرادفاً للتأويل، ولا بد من المرور بالتفسير للوصول للتأويل! وهي الإشكالية الأبرز في الدين الإسلامي الممارس في عصرنا هذا لكون التأويل علم إلهي بامتياز، ولو ترك للبشر لقاموا بتأويل معاني الوحي بما يناسب عاداتهم وتقاليدهم والقيم المجتمعية التي تربوا عليها وفهمهم الضيق للعدل والرحمة والأخلاق والمساواة ومعنى الإيمان والربوية، وهو بالفعل ما حدث لاحقاً.