احتفلت مصر الأحد الماضي بافتتاح أكبر مسجد وتدشين أكبر كاتدرائية في تاريخ البلاد، عشية عيد الميلاد المجيد بحسب التوقيت الشرقي للأقباط الأرثوذكس في مصر، الأمر الذي استدعى تساؤلات عميقة عن معنى ومبنى هذا الحدث الكبير. بداية يمكن للمرء أن يؤرخ لرحلة الإنسان في البحث عن الذات الإلهية من أرض مصر، ولعل إرهاصات التوحيد قد بدأت من عند الفرعون الأشهر إخناتون، والذي دعا إلى عبادة الإله الواحد، وتالياً آمنت مصر بالمسيحية، ثم بالإسلام، ولهذا تعرف النفس المصرية بأنها نفس متدينة بالفطرة والطبيعة.
تغيرت الأزمنة، وتعاقبت السنون، بقيت مصر حارسة لفكرة العقيدة الدينية إلى درجة أن عالم النفس النمساوي الشهير «سيجموند فرويد»، قال ذات مرة إن مصر هي التي ابتكرت فكرة الألوهية، ورددنا عليه بأن المصريين بحثوا عن الإله قبل الأديان التوحيدية.
تمتلئ مصر بالمساجد والكنائس، نعم هذه حقيقة، لكن رمزية تدشين العاصمة الإدارية الجديدة بهذين الصرحين الكبيرين، يعني أن مصر تمضي في طريق بسط جناحيها كما النسر الذي يجدد شبابه، جناح الأزهر الشريف من جهة بشيخه الإمام، وجناح الكنيسة بالبابا القبطي. عشية عيد الميلاد كانت مصر التنوير والتسامح تولد من جديد، وتصدر مفاهيم التعايش الإنساني الواحد للعالم برمته من دون تزيد، فأن يلقي بابا الأقباط كلمة افتتاح المسجد فلعمري هذا حدث جلل، وأن يقوم شيخ الأزهر على عتبات الكاتدرائية الجديدة بالإشارة إلى أن الإسلام بحسب شريعته ضامن لدور عبادة المسيحيين منذ زمن «نصارى نجران» وحتى الساعة، فهذه سابقة في التاريخ لم تجرْ بها المقادير من قبل.
ولعل الناظر للمشهد المصري في ليلة افتتاح مسجد «الفتّاح العليم» وكاتدرائية ميلاد المسيح، من خارج مصر، ربما يرى الصورة واضحة بأكثر من أبنائها الذين يعيشون في قلب الحدث نفسه.
من أفضل هؤلاء كان معالي وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، والذي أشار إلى أن افتتاح الرئيس السيسي للمسجد والكنيسة في العاصمة الإدارية الجديدة، رسالة عظيمة.
عبر حسابه على «تويتر» يؤكد قرقاش أن المبادرة التي قادها الرئيس السيسي تعني إيماناً عميقاً بأهمية تنوع الوطن ووعيه وإصراره على وحدته الإسلامية – المسيحية.
كلمات الوزير الإماراتي تحمل في طياتها فكر الإمارات الخلاق لا سيما في العام الجاري «عام التسامح»، الذي أعلنته الإمارات، ما يؤكد على الصحوة العربية وضبط البوصلة الحياتية في اتجاه الاعتدال والتسامح.
أمران يستلفتان الانتباه في حدث الأحد الماضي، والبداية من عند مصر التي خُيّل للعالم برمته أنها وقعت في براثن الظلاميين من أصحاب التيارات الراديكالية، الذين اختطفوها على حين غرة، وخُيّل للناظر أن مصر قضت، فإذا بها تخلع عنها الماضي وتتدثر بالمستقبل بسواعد أبنائها، فقد كان بناء المسجد والكنيسة ملحمة غير اعتيادية من مسيحيي مصر ومسلميها الذين شاركوا البناء معاً في داري العبادة على حد سواء، ومن دون تفرقة أو تمايز، بل بروح التسامح والمودة وقبول الآخر، إذ لا يعني الاختلاف العقدي حتمية التصارع والتنازع.
أثبتت ليلة افتتاح المسجد والكنيسة، كما أشار الرئيس السيسي في كلمته من داخل الكاتدرائية، أن الشعب المصري صف واحد، وأن لا أحد قادر على تفريقه، حتى وإنْ كانت المؤامرات ضد مصر تحاك بليل بهيم، ولن تنفك تمضي ويزداد سعيرها كلما ارتقت مصر في معارج المجد بوحدة أبنائها.
الأمر الثاني الذي له صلة عميقة بحديث الوزير قرقاش، هو أن الدول العربية تعود اليوم إلى سابق عهود وعقود الحضارة العربية والإسلامية التي قبلت الآخر واحتوته وشارك في صنع حضارتها بغض النظر عن جنسه أو لونه، عرقه أو نوعه، والأكثر إثارة في هذا الإطار هو أنه في أوج اشتداد القوميات المخيفة، والتي حذر منها مؤخراً البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، تلك التي لا تنتج إلا التطرف والغلو بالضرورة، نجد الدول العربية والإسلامية تعود مرة جديدة إلى أفق المودات الواسعة، وبعيداً عن الذين يُضيّقون واسعاً، والمتابع لمجريات المنتديات والمؤتمرات التي جرت في مصر والإمارات العام الماضي وتتصل بقيم التسامح وإفشاء السلام إقليمياً وعالمياً، يدرك أن سحابة من السلام تسود سكان المنطقة، والمؤكد أن زيارة بابا روما الأيام القادمة للإمارات ستعزز من هذا التوجه الإنساني والإيماني البديع.
لم تكن الإمارات غائبة عن احتفالات أعياد الميلاد في مصر، ولا عن افتتاح الكاتدرائية والمسجد، فقد قام سفير دولة الإمارات في القاهرة «جمعة مبارك الجنيبي» بزيارة مقر البابا وقدم التهنئة للبابا، مشيداً بجهود الكنيسة المصرية في تدعيم الوحدة الوطنية للبلاد، وإرساء قيم التسامح والمحبة ليس في مصر فقط، ولكن في أرجاء العالم العربي والإسلامي. أما البابا تواضروس، فيري الإمارات أرضاً وشعباً وحكومة حجر زاوية في نشر التسامح البناء بين مختلف الأديان والأعراق، وإنجازاتها تتحدث عنها. أهلاً بفرحة اللقاء وبالود الإنساني الموصول.
*كاتب مصري