إذا كانت مسألة الحداثة والتنوير تجسد حالة تاريخية مشخصة، فإنها حالة مفتوحة وفق خصوصيتها المحددة اجتماعياً وتاريخياً، وتخرج من كونها حالة عامة ذات حيثيات عمومية مفتوحة، ومن ثم نجد أنفسنا أمام حالات عدة تتصل بالحقول الإنسانية المجتمعية التي تظهر وتبرز فيها المسألة المذكورة وفق ما تسمح به الأوضاع القائمة.
وقد ظهرت ثنائية الحداثة والتنوير في العالم العربي تحت مؤثرات حملَها مثقفون عرب وأجانب، لكنها لم تحمل طابعاً استراتيجياً أو مؤسسياً إلا بنسبة ضئيلة، لتصبح سياسة تهتز في مناسبات كثيرة، لكنها لم تصل إلى أن تصبح خطة عربية مُلزمة باتجاه إقامة مجتمع عصري مدني متطور، دون أن ننسى ما نشأ بعض جهات العالم العربي من ظهور لبعض أسس المجتمع المدني، وإن أخفقت في نسبة ليست ضئيلة منها، وهذا ما يترك الباب مفتوحاً أمام الأجيال العربية الصاعدة والمقبلة، لكن مع الانتباه إلى أن الثنائية المذكورة ما تزال تمثل ضرورة مفتوحة، وستبقى كذلك كي تأخذ المسألة مجراها التاريخي.
وها نلاحظ أمراً مهماً للغاية، يقوم على الاعتقاد بأن المطلوب الآن لا يتمثل في استعادة ما أنجزه مثقفون وعلماء غربيون على صعيد ما نحن بصدده، أي قضيتي الحداثة والتنوير، بل إن هذه الاستعارة إن حدثت ستقودنا إلى فكرة التوفيق بين القديمو الجديد، والتي طالما لجأ إليها مثقفو «العالم النامي».
وفي هذا الخصوص يتعين القيام بمزيد من التدقيق التاريخي والمنهجي، وهنا نستعين بكتاب «الطرق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والتنوير الفرنسي والتنوير الأميركي» (تأليف: غيرترود هيمارفارب، وترجمة: د. محمود سيد أحمد، ونشر «عالم المعرفة»، عام 2009).
تحاول المؤلفة ضبط تلك المرجعيات الثلاث (الغربية)، وفق ما اعتبرته خصوصية مميزة لكل منها. وهنا تضبط المؤلفة كل نموذج من تلك النماذج الثلاثة بما يمنحه هوية معرفية أو خصوصية مميزة له عن غيره، وهي «التنوير البريطاني» متمثلًا بـ«سوسيولوجيا الفضيلة»، ثم «أيديولوجيا العقل» ضمن الحقل التنويري الفرنسي، وصولاً لـ«التنوير الأميركي» بوصفه «علم سياسة الحرية».
واللافت بشدة في التحدث عن موضوع الحداثة والتنوير، أن يرى مفكرون أوروبيون كبار مثل هيجل أن الحداثة والتنوير، إنما هما أمران مرتبطان بالثورة الفرنسية التي نُظر إليها في حينها وكأنها بداية العالم الحديث، وقد اعتبر هيجل أنها نتاج للفلسفة، وقال: لم يحدث قط منذ أن استقرت الشمس في كبد السماء، ودارت الكواكب دورتها حول الإنسان، إن أدركنا أن وجود الكائن البشري متمركز في رأسه، أي في فكره، وأنه ألهمه بناء الواقع.
ويلاحظ في هذا الكتاب تركيزه على مرجعية تاريخية واحدة هي الغرب، بينما يهمل أية محاولة للبحث عن مرجعيات أخرى للحداثة والتنوير خارج الغرب. إن ثنائية الشرق والغرب كانت قائمة في تاريخ العالم قبل عصر الحداثة الأوروبية. وهنا نشير إلى تاريخ الفكر الذي لم يقدم موضوعاته مستقلاً عن غيره، بل مدرجةً في مسائل أخرى ثقافية ودينية وغيرها، أما ظهوره مستقلاً بنسيجه فقد مثّل مرحلة تاريخية التقت فيها وتداخلت منتجات فكرية وسياسية والدينية وأخلاقية.. كانت من متطلبات العصور السابقة وسياقاتها المختلفة.
ويظل السؤال مفتوحاً حول مصير الحداثة والتنوير في العالم العربي، وما إذا كان بالإمكان إكسابهما هوية عربية!

*أستاذ الفلسفة -جامعة دمشق