حينما تجد نفسك شبه محاصر بظروف اقتصادية وتعثرات دراسية في منطقة باردة كالشمال الأميركي، يصبح من المنطقي لديك النظر إلى تقلبات الطقس بأنها جزء من مؤامرة. ما من سبيل لإبقاء القلب دافئاً ينبض في أجواء كهذه سوى القراءة أو مشاهدة الأفلام. البطل الذي أشاهده أمامي، من أولاد الأزقة بكل ما تحمل الكلمة. وهو مع زملائه، النموذج الأمثل لما نعنيه بـ(رفاق السوء). مجموعة أولاد فقراء يعيشون على السرقة والنشل و«سميث» أحدهم. نشاهد قدمين تركضان بسرعة شديدة، وهما مرة قدما شاب، ومرة قدما فتى صغير. وثمة صوت يأتي من الشخص الراكض في حالتيه ليقول: إنني عداء المسافات الطويلة.. لا أحد يستطيع أن يسبقني. وفجأة نرى ولداً يركض بملابس الرياضة ويتابع: لقد قضيت طفولتي كلها وأنا أركض أمام البوليس. ثم يختفي الولد الراكض المذعور في نهاية الشاشة.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذه اللقطات المرمّزة. فإن لهؤلاء الأولاد، أو لـ«سميث» في الأقل، فلسفة خاصة من المفيد سماعها، تقول: المجتمع الرأسمالي الذي تأسس وانطلق من بريطانيا، وكما في أذهان ضحاياه، قائم على سرقة الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء. وأي عمل تقوم به لا يسهم إلاَّ في تقوية نظام السرقة، ولذا فإن الأمر الطبيعي هو أن تكون لصاً، أو في الأقل أن تكون عاطلاً عن العمل. بهذه الطريقة لا تزيد أرباحهم ولا تساعدهم على سرقتك. والحديث هنا عن فيلم ورواية حملا العنوان ذاته:«وحدة عدّاء المسافات الطويلة» لمؤلفها الإنجليزي «آلان سيليتو». الرواية قبل أن تتحول إلى فيلم، عدّت من أجمل وأفضل القصص التي شهدتها ستينيات القرن الماضي.
هذا البسط المكثف للقصة وبطلها هو الذي شكل فيما بعد الأساس الذي قامت عليه «فلسفة» الهيبيز والحركة السياسية التي انبثق منها في الستينيات حزب الشباب العالمي لمعارضة حرب فيتنام تحديداً. و(جيري روبينز) أحد أبرز قادة الحزب وقتذاك كتب كتاباً مهماً سمّاه (دو إت: إفعلها) وجرت ترجمته إلى العربية بعد عدة سنوات وأصدرته دار الآداب اللبنانية بعنوان «هيا إلى الثورة». في تكملة للفيلم، يجري القبض على الصبي «سميث» ويودع مصحة لمعالجة الأولاد الناشزين، فيكتشفون مهارته في الركض. فيتشجعون لإقامة مباريات رياضية يفوزون بها. ويصبح «سميث» «سجيناً متميزاً». يثير غيرة زملائه وأحقاد المساجين الآخرين بسبب الدلال الذي يتمتع به، ويعامل كما يعامل الطير المروّض، يتم قص جناحيه حتى يألف العش، ثم تطلق له الحرية فيطير ويحلق ليعود بملئ إرادته إلى القفص. هكذا كانوا يفتحون له الباب ليخرج للتدرب على الركض في البراري ليعود في المساء إلى سجنه. في التصفيات النهائية للركض يسبق «سميث» الجميع بمسافة طويلة، وفيما هو يركض تتداعى هذه الأفكار إلى ذهنه: لكن المنتصر الحقيقي سيكون مدير، أو إدارة الإصلاحية أوالسجن. يعني أنه بفوزه سيعزز سطوتهم، ويُجمّل صورتهم، وهذا متناقض مع مبدئه. لن يعمل على زيادة مكاسب اللصوص. وإلى ما قبل النهاية يصل «سميث» ويتوقف غير آبه بأصوات المشجعين، مفسحاً للمتسابقين الآخرين في المجال ليسبقوه وهم لا يصدقون أنفسهم. ينتهي الفيلم بإعادة «سميث» إلى سجنه، صبياً ميؤوساً منه لا يمكن إصلاحه.