ليس شائعاً أن تختار دولةٌ ما «التسامح» شعاراً لها، لكن دولة الإمارات فعلت، وبعدما كان عامها الماضي «عام زايد» فاستذكرت خلاله كل ما أوحته لها مسيرته المميزة، التي لا تزال صورها ومحطّاتها حاضرة في الأذهان، ها هي تواصل نهج مؤسس الدولة بإضفاء عنوان «عام التسامح» على سنتها الجديدة. ربما يتبادر إلى الأذهان أن هذه خطوة «علاقات عامة» فحسب، أو تظاهرة موسمية عابرة، لكنها في حقيقتها مسؤولية ذاتية ضخمة تأخذها الدولة على عاتقها، متبنّيةً مبادرات ومشاريع وتشريعات وسياسات لجعل هذا الشعار واقعاً معاشاً، ذاك أنها تستهدف خصوصاً الأجيال الجديدة لبثّ قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي.
لا شك أن رهانات كثيرة تُعقد على هذه المبادرة بمحتواها ومسؤولياتها وأهدافها، لأن جِدّتها وجرأتها في عالم مشحون بالاختلالات تحوّلانها إلى اختبار غير مسبوق، ليس فقط في المجال المعنوي - الأخلاقي البحت، بل أيضاً في السياسات العامة التي ستنبثق منها. ويُحسب لهذه المبادرة أنها اعتصرت المعاناة الهائلة التي غرق فيها الوجدان العربي، وحتى الإسلامي، على مدى زمن لما ينصرم بعد، وخرجت بهذا الهدف: التسامح، لعل تجسيده في أرض هذه المبادرة واستحداث وزارة خاصة به، وبلورة قوانين في ضوئه، ومنح اسمه لبعض المعالم، ترشّحه للتعميم و«التصدير» إلى العالمين العربي والدولي. ففي زحمة الوقائع المنافية لأبسط أعراف الإنسانية، واشتباك المنافسات والمصالح في حروب متداخلة، باردة وساخنة، يبدو العالم في أشدّ الحاجة إلى تذكير نفسه بأن وراء ما يشهده من قتل ودمار ثمّة قيماً ما كان لها أن تُغيّب أو تُنسى.
أبسط ما يمكن أن ترمى به مبادرة التسامح هذه أنها تسير عكس التيار العالمي السائد بما ينطوي عليه من أمراض وبما يعمّه من صراعات حيتان وديناصورات يأكل كبيرُها صغيرَها، أو يدوس سريعُها الأقلّ سرعة. قد يُسأل عن الجدوى من إحياء قيم كالتسامح والحثّ على اتّباعها في التعامل مع عالم لم يعد متسامحاً إلا في ما ندر. قد يُسأل أيضاً هل أن التسامح سيزيل الظلم الذي ترزح شعوب وأقوام تحت قسوته وعنفه. ولا بد أنه سيُقال إن الأديان جميعاً كرّست التسامح كأحد أعمدة الإيمان، وأن العديد من الفلاسفة كرّسوا فكرهم للتمجيد بالتسامح، لكن النتيجة مخيّبة للآمال... نعم، كل ذلك معروف، لكن مخالفة الصواب لا تسوّغ تغليب الخطأ، كما أن تكاثر المظالم لا يمكن أن يمحو فطرة العدل والإنصاف، ولا يمنع أن يرتفع ولو صوتٌ واحد للتذكر بأن التسامح لا يزال ممكناً.
كانت الأمم المتحدة سمّت 1995 «عام التسامح»، وما لبثت أن دعت إلى اعتبار السادس عشر من نوفمبر من كل سنة يوم التسامح العالمي. أية أهداف حدّدت لهذه المبادرة؟ «التزام الدول والحكومات العمل على النهوض برفاه الإنسان وحريته وتقدّمه في كل مكان، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب»... كان ذلك محاولة من المنظمة الدولية لاستنهاض الضمير العالمي، بعد خمسة أعوام على «النهاية الرسمية» للحرب الباردة وخلال البدايات الجامحة للعولمة، والكلّ يعلم أن التزامات الدول والحكومات كانت متفاوتة بين رمزية أو شكلية وبين جدّية انكبّت على ضخ روح التسامح في البرامج التعليمية، وهذه خطوة مجدية في المدى البعيد. لعل الأمم المتحدة تشعر كل يوم أو قلّ كل سنة بحاجة متجدّدة إلى تكرار دعوتها إلى بث التسامح في السياسة الدولية، علّها تترجم إلى عمليات سلام تعكف على تفعيلها وتطويرها.
انطلاقاً من ذلك، تكتسب المبادرة الإماراتية طابع تحدٍّ وطني محلي وعالمي، بغية استيعاب الدعوة العالمية بخصوصيات عربية وإسلامية، فالتسامح غدا مصدّاً لا غنى عنه لريح السموم التي اجتاحت المجتمعات العربية متجلببة بأثواب دينية وبأكثر أنواع التطرّف والعنف والكراهية، إلى حدّ جعل العالم يشهر ارتياباً وتشكيكاً إزاء الدين الإسلامي نفسه. وإذ ترتّبت عن هذه الإشكالات المفاهيمية مهمّات كثيرة، كتصحيح صورة الإسلام وتصويب الخطاب الديني ومكافحة ظاهرة الإرهاب والتطرّف في أسبابها، كما ترتّبت عنها أيضاً واجبات تتعلق بحركة التنمية عموماً خصوصاً في جوانبها التعليمية والثقافية، فإن كل هذه الجهود باتت تتطلّب التسامح كخيمة جامعة ونبراس موجِّه. وفي كل الترجمات العملية وأكثرها خصوصيةً كان التسامح ولا يزال يُقدَّم باعتباره خلاصةً لاحترام الحقوق والواجبات بكل مضامينهما الإنسانية.