منذ أكثر من مائتي عام، والثقافة العربية المعاصرة تنهل من مصدر آخر هو الغرب الحديث، كما نهل القدماء من الغرب القديم، أي اليونان. واستمر النقل عن الغرب أكثر من مائتي عام من جانب النخبة. فأصبحت الثقافة العربية مزدوجة المصدر، الموروث من القدماء، والوافد من المحدثين. ومازال النقل مستمراً عن المحدثين، والنشر مستمراً من القدماء. لذلك تم استقطاب الثقافة العربية بين مصدرين متنافسين ومتزاحمين؛ حيث فضّلت الأغلبيةُ الموروثَ القديم على الوافد الجديد، فهو أقرب إليها، ويعبر عن هويتها الثقافية. وفضّلت النخبة الوافد الجديد على الموروث القديم، فهو يلبي مطالبها في الحداثة والتنوير. وفضّل الإصلاحيون الجمع بين الاثنين؛ قراءةَ الجديد في القديم أو قراءة الجديد في القديم كما فعل الطهطاوي وخير الدين التونسي، سواء على مستوى الفقه والألفاظ أو مستوى الأفكار والتصورات. وفي كل الحالات، كان الغرب مصدراً للعلم وأداة للتحديث.
فلما انهارت الدولة الليبرالية ثم الدولة القومية، تنازعت الثقافتان السيادة على الدولة القطرية الضعيفة؛ فالقديم أولى بالوراثة لأنه يمثل تاريخ الأمة عند فريق، والجديد أولى بالوراثة لأنه يمثل الحداثة المجهضة في عالم متسارع الإيقاع؛ فالعصر عصر الحداثة، والزمن زمن العولمة، والمرحلة مرحلة ثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية واحدة.
وأصبحت الخطورة على المشروع النهضوي العربي الجديد هي استبدال سيد بسيد، واستلاب باستلاب، العودة إلى الماضي كما يفعل التيار السلفي أم القفز نحو المستقبل كما يفعل التيار العلماني؟
ولدرء هذا الخطر الجديد، أي الاستلاب الثقافي والحضاري في الغرب، يمكن للمشروع النهضوي العربي الجديد تغيير علاقته بالنموذج الغربي، فبدلا من أن يكون مصدراً للعلم يكون موضوعاً للعلم. وبالتالي تغيير الأدوار، بدلا من أن تكون الذات هو الدارس والآخر هو موضوع الدراسة، بدلا من أن تكون الذات موضوعاً للملاحظة، والآخر هو الملاحِظ، يصبح الآخر موضوعاً للملاحظة والذات هي الملاحِِظ. وبدلا من أن يظل الاستشراق وحده هو العلم الذي يدرس فيه الغربُ الشرق، ينشأ معه «الاستغراب» الذي يدرس فيه الشرقُ الغربَ. فقد تعوّد الغرب أن يكون دارساً لا مدروساً. كما تعوَّد الشرق أن يكون مدروساً لا دارساً. لذلك أنشأ الغرب علم الصينيات، وعلم الهنديات، وعلم المصريات، وعلم الإسلاميات. ولم تُنشئ الثقافة العربية في علاقتها بالغرب الحديث أي علم لدراسته.
لقد درس القدماء، مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، اليونانَ غرباً، كما درس البيروني الهند في «ما للهند من مقولة مقبولة في الفعل أو مرذولة»، ودرس مسكويه فارس في «الحكمة الخالدة» شرقاً. فـ«علم الاستغراب» هو استئناف لدراسة الآخر من منظور الذات. وثقافة الآخر ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لدراسة ثقافة الأنا. لذلك فرّق القدماء بين علوم الغايات وعلوم الوسائل، بين ثقافة العرب وثقافة العجم، بين علوم المتأخرين وعلوم المتقدمين. يهدف هذا العلم الجديد إلى تحرير الثقافة العربية من التبعية للآخر والانبهار به وتقليده وأخذه نموذجاً أوحدَ للتحديث حتى تتعدد النماذج أمامها، ومن ثم القضاء على الاغتراب، أي اغتراب الذات في غيرها، حيث تنشأ حركات العودة إلى الذات لتجرفه (الآخر) بعيداً، وتتحصن داخل ذاتها، أي ردة الفعل متمثلة في الحركات السلفية الأصولية التي ترفض الغرب وتدافع عن الهوية. وكلما زاد الفعل قويّ رد الفعل، فينشأ الاستقطاب بين الجناحين الرئيسيين في الثقافة العربية المعاصرة.
والخطر في التغريب هو نتائجه السياسية، والتوجه نحو الغرب في السياسات العامة، في الاقتصاد والتعليم والقيم الثقافية والبنيات الاجتماعية، وربط الأطراف بالمركز، ونشوء نخبة ولاؤها للآخر الغربي. وقد ينشأ جناح وطني يتبنى قيم الغرب، مثل الليبرالية والعقلانية والنزعة الإنسانية وقيم التقدم لصالح الوطن. فتنشأ حركة وطنية معادية للهيمنة الأجنبية باسم القيم الحداثية، كما حدث في ثورة 1919 في مصر.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة