قبل أسابيع من إعلان الحرب في عام 1914، كانت الثقة تغمر البريطانيين، وقال المتفائلون: «ستنتهي الحرب قبل أعياد الكريسماس»، أما المتشائمون فتوقعوا استمرارها عامين كاملين، غير أن ما لم يتوقعه أحد هو الخنادق ودمار الحرث والزرع، وضياع جيل بأسره من الشباب في المعارك التي اتسعت لتشكل الحرب العالمية الأولى.
تلك التوقعات الخاطئة للأحداث كانت نتاج لحظة شديدة الخصوصية، فبداية القرن العشرين كانت مرحلة ازدهار وابتكارات تكنولوجية لا تصدق، فالقطارات والطائرات والهواتف والتلجراف كانت تربط عالماً حديثاً معولماً، وتعامل الجميع مع السلام على أنه معلوم بالضرورة. ومثل بقية دول أوروبا، لم تكن بريطانيا قد خاضت حروباً منذ عقود، ونسي كثيرون معنى الحرب. فتطوع الشباب لخوض المعارك بحماس شديد، بحثاً عن المغامرة، وسعياً «لسداد ديونهم» و«لمساعدة الملك وبلادهم».
ويبدو أن بعض هذه الأسباب عادت مرة أخرى، إذ نعيش الآن في عصر سلام وازدهار وابتكار تكنولوجي. ومرة أخرى نتعامل مع كل هذه الأمور على أنها من المسلمات. ومرة أخرى، هناك البعض متحمسون لمغامرة جديدة، وفي بريطانيا، يجعل وصول «تيريزا ماي» إلى طريق مسدود بشأن «بريكسيت» الأمر ممكناً. فرئيسة الوزراء لم تنل أغلبية برلمانية لتأييد خطة الانسحاب التي تفاوضت عليها مع الاتحاد الأوروبي. وبدلاً من ذلك، أجّلت التصويت، ومؤخراً بدأت الحكومة التخطيط لـ«الخروج من دون اتفاق». وإذا ما حدث ذلك، فإن مئات الاتفاقيات التجارية وغيرها بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي ستصبح لاغية مع الانسحاب المقرر في 29 مارس المقبل. وما لم يقرر الاتحاد منح تمديدات زمنية، فإن نقاط المراقبة الجمركية والحدودية ستُطبق تلقائياً، ولا أحد يعلم ماذا يعني ذلك تحديداً!
وقد يحدث نقص في الغذاء والدواء. وبدأت بريطانيا مؤخراً شراء وحدات تثليج إضافية. وربما تتوقف الرحلات، وتُلغى العقود. وسيصبح ملايين البريطانيين الذين يعيشون في أوروبا، وملايين من مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعيشون في بريطانيا، في مأزق قانوني. وبالطبع، ستتأثر علاقات بريطانيا بمعظم حلفائها وشركائها الاقتصاديين المهمين، وقد تستمر تلك الفوضى لعقود.
والحقيقة أنه لا أحد يعلم ما سيحدث لاحقاً، لأنه لا توجد دولة في الأزمنة المعاصرة قررت عن عمد عزل نفسها عن أهم شركائها التجاريين، وإنهاء علاقاتها الثقافية والسياسية بين عشية وضحاها. وتخميني هو أن التأثير سيمتد، بحيث لن يصبح الضرر واضحاً قبل مرور سنوات، غير أن هناك من يعتقدون أنه سيكون سريعاً، وسيسبب صعوبات مباشرة.
ورغم اشتهار بريطانيا بالحذر والتحفظ، فالمفاجئ أن هناك من يرحبون باحتمال حدوث أزمة اقتصادية! ويعتقدون أن التراجع المفاجئ في النشاط الاقتصادي سيكون أمراً مفيداً لروح الأمة، فالجميع سيستيقظون، ويشدون أحزمتهم ويعملون بجد!
وكتبت نواب مؤيدون لـ«بريكسيت» مؤخراً: «إن البريطانيين من أسوأ الكسالى في العالم». والمطلوب، بحسب اعتقادهم، هو حدوث صدمة وفترة من الصعوبة والتحدي، فذلك سيرد بريطانيا الكسولة والمنكفئة إلى جوهرها، ويكشف عن مكنون الشخصية البريطانية.
وعلى الجانب الآخر من الطيف السياسي، هناك نوع مختلف من الخيال. فزعيم حزب العمال المعارض «جيرمي كوربن» ذي الخلفية الماركسية، يُرحب بالكارثة لأنها، مثلما كتب الصحافي «نيك كوهين»، «ستكون مناسبة لثورة اشتراكية».
ورغم ذلك، يتمنى البعض أزمة عميقة، لكن من أجل نتيجة مختلفة: أن تدفع الفوضى إلى سن قوانين تنهي دولة الرفاه. وهذه ليست آراءً على الهامش، ولا تعتبر أفكاراً مجنونة، فكل هذا الخيال أعرب عنه رموز من النخبة: وزير خارجية سابق وزعيم حزب معارض وممولون أثرياء. وكلما أصدر البنك المركزي البريطاني أو وزير الخزانة تحذيرات بشأن أزمة اقتصادية حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق، فإنهم يسخرون من هذه التحذيرات ويعتبرونها «نوعاً من الدعاية».
والمأساة هنا: أنني أصبحت الآن مقتنعة بأنه لا يمكن سوى لأزمة حقيقة أن تعالج خيال القرن الحادي والعشرين بشأن الأزمة. ولو أن بريطانيا انسحبت بالفعل من الاتحاد الأوروبي، ثم واجهت كارثة، فإن ذلك وحده ما سيجعل هؤلاء الثوريين النخبويين يشعرون بالحنين للازدهار الذي كانوا يعرفونه، لكن بالطبع، سيكون قد فات الأوان حينئذ!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»