كل لحظةٍ نعيشها تتحول إلى تاريخ، وتأخذ برهة الزمن خلودها من ارتباطها بالحدث. قارئ التاريخ مثل قبطانٍ مبحر، لكل جبل وجزيرة وأثر يمر به تاريخٌ يُكتب، وأساطيرٌ تروى، ونقوش ترسم.
الذي ميز الأمم، ونقلها من كبواتها، مقدار وعيها بدروس التاريخ، فهو لايعيد نفسه كما في العبارة الدارجة، وإنما تعود الأحداث متشابهةً، بسبب نقص الوعي به. وقد درج على كتابة الأحداث الكبرى، علماء كبار في تاريخنا، مثل: الطبري، وابن كثير، والبغدادي.
وفي الغرب أرنولد توينبي، وويل ديورانت، وإريك هوبزباوم، وكتاباتهم مزيجٌ من التاريخ، والأفكار، والدروس، والأحداث، ومن دون تلك الوثائق لايمكن للبشرية أن تعرف مسارات أحداث الغابرين، ولا أن تستشرف مستقبل المعاصرين.
حين قرأتُ كتاب الأستاذ الدكتور، جمال سند السويدي: «أحداث غيرت التاريخ»، لفت نظري نوعية الأحداث التي اختارها، وانتخبها من بين آلاف الأحداث، ونثار الأزمات.
وجدته بالمقدمة، يشير لدور الأحداث وارتباطها ببعضها، صحيح أن الحدث واقعة مركبة من مكانٍ وزمانٍ وفاعلين اجتماعيين، ولكن قد يجلب معه أحداثاً مضاعفة.
في المقدمة يقارن بين واقعتين، فمعاهدة «فيينا» عام 1815، «التي جاءت بعد انتهاء الحروب النابليونية، والتي أدخلت أوروبا في سلسلة من الصراعات التي استمرت سنوات طويلة... ينظر إليها بأنها نموذج لكيفية صناعة السلام بعد الحروب، نجم عنها نظام دقيق لتوازن القوى، وتبني القائمين عليها احتواء المهزوم بدلاً من إذلاله».
ويقارن بينها وبين معاهدة «فرساي» عام 1919، بعد الحرب العالمية الأولى، التي أذلت ألمانيا، أشد الذل، وكيف كانت هذه المعاهدة، المذلة، «بذرة الحرب العالمية الثانية».
عشرون حدثاً فارقاً اختارها الدكتور جمال في كتابه، ومن بين ما اختاره للتعليق، حرب الثلاثين عاماً، في الفترة بين (1618-1648)، بين أتباع البابا، والمذهب الكاثوليكي من جهة، وأتباع مارتن لوثر، وجون كالفن، والمذهب البروتستانتي، من جانب آخر، حيث يرى ضرورة درسها، لتجاوز العطب الطائفي في العالم الإسلامي، فهي درس واضح يبين كيف مُزقت أوروبا، وأضرمت النيران في البيوت، وسالت الدماء بالشوارع. ثم يورد آثار الحرب، حتى بعد «صلح وستفاليا» عام 1648، حيث الاتفاق على سيادة القانون وإبعاد الكنيسة عن السياسة، معتبراً درس تلك الحرب بأن: «حكمة التاريخ تقول إن الجميع خاسر في الحروب الدينية، والصراعات الطائفية والمذهبية»، مؤكداً على مفهوم «التسامح»، ودوره في تقليل مظاهر الكراهية في أوروبا، بسبب وعيهم بالدرس التاريخي، واستيعابهم المؤلم لأثر الدماء، والدمار، على الإنسان والبنيان.
أما معاهدة «فيينا»، فيأخذها المؤلف، لسرد تطور نشأة النظام الدولي، ولهيكلة الدولة الحديثة. رَسّخت المعاهدة مبدأ «توازن القوى»، وضرورة استلهام تجربتها وبنودها التي حافظت على القارة الأوروبية، ونزعت فتيل الخلافات المميتة، وردمت الجمر المضطرم دوماً، للحرب تحت رماد التسويات المؤقتة، قيمة المعاهدة في هدم أسباب الحرب، التي طحنت القارة العتيدة الغنية.
وفي معرض استعراضه، للحدث الضخم، «الحرب العالمية الثانية»، (1939-1945)، يربط بين مشروع مارشال، وبين النمو الأوروبي، وذلك بفضل الدور الأميركي، الذي فرض هيمنته على العالم بعد الحرب، ولكن الأهم عدم تكرار خطأ، معاهدة «فرساي».
مشروع «مارشال»، وضع لبنة السلام في أوروبا، ونزع كل إمكانية، لولادة هتلر جديد، في القارة. تم استيعاب الخطأ التاريخي، الذي ارتكب بعد الحرب العالمية الأولى، وبناءً على ذلك نهضت أوروبا من جديد، متسلحة بإرث عريق من الأفكار، والنظريات، أهلها للغوص في لجج العلوم، ونثر جواهرها، للعالم بأكمله!
كتاب الدكتور جمال السويدي، بأحداثه العشرين، يستحق الدرس من قبل الجيل الشاب، لأخذ العبرة من الأمم التي ذاقت ويلات الحروب الدينية العبثية، والغرب الآن يتأمل بأسباب كل حروبه بسخريةٍ تامة، يعلمون كيف يمكن لغباء البشر، وتعصبهم، وكراهيتهم أن ينتج أتعس المصائر، وأن يدمر كل الأحلام.
الحقد لا تعالجه الحرب، دواؤه أن نلجمه بالتسامي، والعقل...
ربما لذلك قالت العرب قديماً:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتبُ
ولا ينال العُلى من طبعه الغضب!