شهدت الساحة الإعلامية المصرية سجالاً في أعقاب رحيل الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، وقد بدأ السجال بمقالة كتبها الدبلوماسي المصري القدير عبد الرؤوف الريدي الذي شغل منصب سفير مصر في الولايات المتحدة إبان رئاسة بوش كان مضمونها إيجابياً بصفة عامة في تقييم أداء الرئيس الأميركي الأسبق وبالذات في مجال السياسة الأميركية تجاه مصر وذكر مثالين تحديداً في هذا السياق أولهما إلغاؤه الديون العسكرية للولايات المتحدة على مصر، وثانيهما تأييد ترشيح الدكتور بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة، وقد رد عليه الكاتب سليمان جودة بمقالة فند فيها ما سبق على أساس ألا فضل لبوش في هذا وإنما يرجع الفضل في العمل الأول لدور مصر في التحالف الدولي لتحرير الكويت، والثاني لأن الدكتور غالي كان مرشح القارة الأفريقية، وساهم في الجدل بعد ذلك السفيران أحمد البديوي وعبد الرحمن صلاح، وكان توجههما مؤيداً لوجهة نظر الريدي، وأضاف صلاح حجة مهمة بخصوص ترشيح غالي مفادها أن التجديد له كان موضع إجماع أربع عشرة دولة في مجلس الأمن لكن الرئيس كلينتون أحبط هذا التجديد، ولقد أثار عندي هذا الجدل سؤالاً مهماً يتعلق بإمكانية الموضوعية في التحليل السياسي وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون المحلل موضوعياً في تقييمه أداء قائد سياسي ما بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه معه في التوجهات ودونما اعتبار لمدى تأثر المحلل سلباً أو إيجاباً بأفعال هذا القائد؟ ويعتقد كاتب هذه السطور أن هذه الموضوعية ممكنة، وإن كانت صعبة للغاية وتتطلب مواصفات خاصة في القائمين بالتحليل ليس سهلاً توفرها.
ولنأخذ الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش مثلاً فهو في تقديري أكثر الرؤساء الأميركيين المعاصرين خبرة وحكمة، فقد تقلب في مناصب مهمة وحساسة ومتنوعة بدءاً من عضوية الكونجرس الأميركي ومروراً بتمثيل بلاده في الصين والأمم المتحدة ورئاسة المخابرات المركزية، ثم العمل كنائب للرئيس ريجان طيلة ثماني سنوات، ولا أعتقد أن مرشحاً رئاسياً آخر قد تمتع بهذه الخبرة، وأذكر أن الشعار الأساسي لحملته الانتخابية عندما كان يتنافس على الفوز بترشيح الحزب «الجمهوري» له للرئاسة قبل أن ينضم لرونالد ريجان هو «رئيس لا نحتاج تدريبه»، وربما كان هذا الشعار يُلَمح لقلة خبرة ريجان آنذاك، وبالفعل أدار بوش السياسة الأميركية بحكمة وحنكة بالغتين، وأهم الأمثلة في هذا الصدد يتعلق بمواجهته قرار صدام حسين بغزو الكويت، ونذكر أن ذلك الغزو قد تم بينما كانت عقدة فيتنام ماتزال في أوجها، ولم تكن الولايات المتحدة قد تورطت بعد في أي تدخل عسكري مباشر بعد هزيمة فيتنام، ومع ذلك لم يجفل بوش من اتخاذ القرار، لكنه كان يعرف مدى خطورته، ولذلك حرص على الرغم من أنه كان يستطيع أن يتخذه بمفرده على أن يستكمل دائرة التأييد الداخلي والدولي للقرار تماماً، وصحيح أن المجتمع الدولي كان مستنفَراً ضد الغزو لكن الحصول على موافقة الكونجرس لم يكن سهلاً سواء بسبب عقدة فيتنام أو لما هو معروف من أن اتجاهات الرأي العام الأميركي تجفل بصفة عامة من الزج بقوات أميركية في صراعات خارج الحدود، ولهذا جاء تنفيذ القرار «كما يقول الكتاب» وفقاً للقول الشائع.
ولنقارن ما سبق بقرارات الرئيس الأميركي الحالي وآخرها القرار المفاجئ بسحب قواته من سوريا، وأناقش هذا القرار سواء من منظور الطريقة التي اتُخِذ بها أو الأهداف التي يمكن أن يحققها أو التداعيات التي يمكن أن تترتب عليه، فأما الطريقة فهي لا تتبع التحديد الدقيق للموقف وهنا استند ترامب إلى أن «داعش» قد هُزِمت وهو تقدير للموقف يكاد أن يختلف الكل معه بشأنه، فإذا تحدثنا عن الإطار المؤسسي للقرار نجد أن القرار في جوهره فردي بدليل الاستقالة الفورية لوزير دفاعه بعد إعلان القرار، وأخيراً وليس آخراً تأتي التداعيات المحتملة للقرار الذي أثار عاصفة من الأسئلة حول تأثيراته المحتملة على الجميع، وتكاد الإجابة الأقرب للصحة حتى الآن أن القرار لم يترك حليفاً أو صديقاً للولايات المتحدة إلا وأضره وعدواً أو عدواً محتملاً لها إلا وأفاده ناهيك بالضرر البالغ الذي يمكن أن يحدثه القرار بالنسبة لصدقية الولايات المتحدة.