بقراره سحب جميع القوات الأميركية من سوريا، يقدم الرئيس دونالد ترامب هدية كبيرة بمناسبة رأس السنة الميلادية للرئيس بشار الأسد وتنظيم «داعش» والكرملين وطهران. وهو أيضاً يضمن عكس المكاسب العسكرية الأميركية هناك، ويقضي على أي نفوذ لوزير الخارجية «مايك بومبيو» ومبعوثه الخاص للشؤون السورية «جيمس جيفري» لقيادة تسوية دبلوماسية تلبي أهداف الإدارة فيما يتعلق بإبقاء «داعش» وإيران خارجاً.
والأهم من ذلك، أن ترامب يقع في نفس الفخ الذي سقط فيه الرئيس باراك أوباما عندما سحب جميع القوات الأميركية من العراق في عام 2011. ويضمن قرار ترامب فعلياً أن يبدد الأمن بشكل أكبر، وأن يبرز تنظيم «داعش» وإيران مرة أخرى، وأن تضطر الولايات المتحدة للعودة إلى سوريا بتكلفة عسكرية أكبر وفي ظروف أكثر سوءاً مما سيكون عليه الحال إذا بقينا.
كل ما يتعلق بهذا القرار الزئبقي يهدد المصالح القومية الأميركية كما عرّفها ترامب نفسه. أولاً، إن تنظيم «داعش» بعيداً عن خروجه من سوريا. وقبل ستة أشهر فقط، ذكر «البنتاجون» أن ما يقرب من 20 -30 ألف مقاتل ما زالوا نشيطين في سوريا والعراق. ربما لم يعد تنظيم «داعش» يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية، لكن مقاتليه يختبئون في جيوب لا تخضع للسيطرة في الشرق وفي الأزقة الخلفية لإدلب.
وبمجرد أن تنسحب الولايات المتحدة، سيقوم تنظيم «داعش» بثلاث خطوات. فهو سيدّعي تحقيق النصر على ما يسميهم «الكفار» الأميركيين، ما يقوي نشاط التجنيد بشكل مفرط في جميع أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا. كما سيصب مقاتلين جدداً في شرق سوريا. وسيخرج من الظلال لاستعادة الأراضي في شرق سوريا من «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، والتي لا يمكنها الاحتفاظ بـ«الرقة»، أو أي منطقة أخرى تم تطهيرها دون مساعدة الولايات المتحدة المستمرة.
كما ستغرق إيران المنطقة التي ستتخلى عنها الولايات المتحدة. ومن المرجح أن تكون طهران قد أصدرت بالفعل أوامر لبضع عشرات الآلاف من ميليشيات «حزب الله» التي تسيطر عليها في غرب وجنوب سوريا لكي تتحول إلى الشرق. وكان مستشار الأمن القومي «جون بولتون» قد تعهد قبل ثلاثة أشهر فقط بأن تظل الولايات المتحدة في سوريا حتى يتم طرد آخر مقاتل إيراني منها. وبتغريدة واحدة يوم الأربعاء، دعا الرئيس بدلاً من ذلك طهران لتعميق قبضتها العسكرية والسياسية والاقتصادية على هذه المنطقة الحيوية من الشرق الأوسط. وفي هذه العملية، ستحصل إيران أيضاً على السيطرة على حقول النفط الرئيسية في دير الزور، والتي تحميها القوات الأميركية وقوات الدفاع الذاتي، ما يسمح لها بتمويل استيلائها على الأراضي ذاتياً.
ومن ناحية أخرى، فإن موسكو تحتفل أيضاً. بعد سنوات من التظاهر بالتفاوض مع واشنطن من أجل التوصل لحل دبلوماسي للأزمة السورية، من الممكن أن يتجاهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توسلات مبعوثي ترامب، لأن الولايات المتحدة لن تستطيع المخاطرة عسكرياً لدعم دبلوماسيتها. وسيستمر الكرملين كما خطط منذ فترة طويلة، ويعزز السيطرة على بقية سوريا من أجل الأسد حتى عام 2021 وبعد ذلك يقوم بتزوير الانتخابات من أجل رئيس صوري جديد. وبدلاً من توسيع وجودها البري في سوريا، ستقوم موسكو بتوسيع دعمها الضمني للميليشيات المدعومة من إيران والتي تخدم بالفعل كقوات شرطة محلية فعلية في غرب سوريا. وربما تسمح لطهران بتقسيم الغنائم من حقول النفط في دير الزور، وربما تعود كل هذه الأموال إلى موسكو.
وبطبيعة الحال، سيقاتل كل من تنظيم «داعش» وقوات الدفاع الذاتي من أجل تلك المنطقة، أيضاً، مما سيطلق دورة أخرى من سفك الدماء ودخول شحنات الأسلحة الإيرانية إلى سوريا. وهذا، بدوره، سيثير قلق إسرائيل واستجابتها الحركية. وبعد ذلك، ستصور موسكو نفسها باعتبارها صانع السلام والقوة الوحيدة القادرة على إبرام اتفاقيات استراتيجية مع إسرائيل والأردن وتركيا وغيرها. وبذلك، يحقق بوتين حلمه منذ فترة طويلة باستعادة الهيمنة ما بعد الاتحاد السوفييتي في قلب الشرق الأوسط –على الأقل حتى يعود تنظيم «داعش» مرة أخرى.
كما ماتت الدبلوماسية الأميركية بشكل حزين مع تغريدة ترامب. فقد أحرز المبعوث الخاص لشؤون سوريا «جيمس جيفري» بعض النجاحات في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك المساعدة على تخفيف حدة التوتر بين تركيا وروسيا بشأن إدلب في شهر سبتمبر الماضي. وكان «جيفري» مستعداً للقيام بمهمة إعداد مسار سياسي جديد لسوريا، متوقعاً الفشل المحتمل للجهود الروسية للتفاوض بشأن دستور جديد بحلول الحادي والثلاثين من ديسمبر. وإذا انسحبت الولايات المتحدة، فلن يشارك حتى الأصدقاء السوريون لواشنطن في المسار الدبلوماسي الذي تقوده الولايات المتحدة. وسيكونون مشغولين بالدفاع عن أنفسهم من «داعش» وإيران.
قبل بضعة آلاف من التغريدات، كان ترامب ينتقد سلفه لأنه ترك العراق لتنظيم «داعش» في 2011، ثم كان يتعين عليه العودة في 2014. يذكر أن الولايات المتحدة لديها حالياً 5200 جندي منتشرين في العراق وتنفق 13.6 مليون دولار يومياً على العمليات العسكرية هناك. وبذلك المقياس، يجب على الرئيس أن ينظر إلى قواتنا البالغ عددها 2000 جندي في سوريا على أنها صفقة، وسياسة تأمين ونفوذ حيوي ضد نتائج أكثر سوءاً بالنسبة لنا ولسوريا ولتوازن القوى العالمي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»