ما الذي تستحضره الذاكرة للوهلة الأولى غداة إعلان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عام 2019 عاماً للتسامح في الإمارات العربية المتحدة؟
بالقطع أقرب ما يتبادر إلى الذهن هو أن يكون العامُ الجديد امتداداً لعام زايد 2018، زايدُ الخير الرجل الذي نجح وبامتياز في اختبارات التسامح الكوني والإقليمي والمحلي، والذي قال ذات مرة: «إن التسامح واجب، وأن ديننا الحنيف هو دين رحمة وتسامح، تفاهم وتقارب بين جميع البشر».
من جديد أصبحت الإمارات عاصمة كبرى للتسامح العالمي الممنهج، ذلك الذي ترعاه الدولة بقوة حضورها، وتهيئ الأجيال القادمة للسير في طريقه، وفي تقدير أصحاب القرار والأفكار أن التسامح هو وعن حق دليل الساعين إلى تحسين أوضاع العالم، وأداة لتقويم المتشائمين واليائسين من تغيير أحوال العالم، فالتسامح يشفي النفوسَ من جراح الماضي السيئ، ويدفعنا لأنْ نحرر أفكارنا من الأحكام المسبقة والأفكار المُنمَّطة المقولبة بشأن الآخر، ويفتح لنا الأبوابَ واسعةً لمكافحة طغيان الأيديولوجيا والعداوة المأساوية والتجاوز المؤسف في جميع أشكاله.
أسَّس زايد الخير دولته الحديثة على قيَّم راسخة من الرحمة ومن سعة الصدر، وأثبتت التجربةُ التاريخية أنَّ ميراثَ الآباء الطيب لابد له من أن يؤتيَ ثمارَه، ويزدهر بأحسن صورة في توجهات الأبناء البررة، وها هي الإمارات تمضي ضاربة المثل بحثاً عن مجتمعات وشعوب أكثر استقراراً وأوفر سعادة، إنه غرس زايد الذي نما، وجاء أوان الحصاد المبهج للناظرين.
يعن لنا أن نتساءل هل بات التسامح قيمة مفقودة في زمن العولمة؟ الشاهد أنه ومنذ أواخر القرن العشرين، ومع زيادة معدل الأحداث الفاجعة قومياً ودولياً، تعددت مجالات الاهتمام بالتسامح كقيمة منقذة للعالم من عثراته، ولهذا وُظِّفَ كأسلوب علاجي، واستُخدم على نطاق واسع لحل المشكلات المعقدة، فقد أدرك السيسولوجيون وأصحاب الحكم الرشيد على حد سواء أن هناك علاقة طردية بين التسامح ومساحة السلم المجتمعي، وبين التسامح والسبيكة الإنسانية المعولمة التي أسقطت الحدود ولاشت السدود، وعليه كلما ازدادت مساحة التسامح عند أمة بعينها، ارتفعت معدلات السلم والسعادة فيها، وراجت أحلام القفز في الآفاق الرحبة.
أحد الأسئلة المثيرة للتأمل في ضوء إعلان الإمارات: هل يمكن أن تنشأ ثقافة التسامح عبر قرارات فوقية من قبل السلطة التنفيذية، أم أن التسامح قيمة تربوية يجب تلقينها للأجيال القادمة من بعيد، وخلال سنوات الطفولة بنوع خاص؟
الحقيقة أن الجواب يحتوي على الأمرين، فالدولة القوية الناجحة هي التي تأخذ بأيدي مواطنيها في طريق السلامة، وتباعد بينهم وبين مسارب الندامة، والذين قُدِّر لهم إمعان النظر في المحاور الخمسة التي تمثل ركائز عمل الإمارات في العام القادم يرى كيف أن قمَّة الهرم الإداري للدولة تأخذ على عاتقها تحويل الشعارات البراقة إلى برامج اجتماعية تخدم الأجيال الناشئة، تلك التي ستمسك بزمام الأمور مستقبلا، وتتيح للكبار والشيوخ أن يُعطُوا مما زاد في معينهم الحضاري والإنساني للإمارات عبر خمسة عقود هي عمر الاتحاد.
عام زايد كان فرصةً للتأمل في سيرة ومسيرة الأب المؤسس، وعامٌ التسامح طاقة أمل ونور للبحث عن قيمة سامية خلاقة في منطقة متألمة، تعرف القطع لا الوصل، ولهذا فإن مسيرة العام القادم هي انعكاس حقيقي للنهج المتسامح الذي تبنته دولة الإمارات بوصفها جسر تواصل وتلاقي بين شعوب العالم وثقافاته وبث روح النماء والازدهار في بيئات منفتحة وقائمة على الاحترام، ونبذ التطرف ومشرأبة لملاقاة الآخر.
يستطيع المراقب لحال العالم، ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين القطعَ بأن البشرية في مرحلة تطورها الراهن تواجهُ أخطاراً جديدة لا مثيل لها في التاريخ، ذلك الذي تعلمنا أنه لا يكرر نفسه، فإذ بنا نرى من حولنا آيات العجب العجاب، فهل من مصدق أن الحزب النازي يمكن أن يعود إلى الحياة في ألمانيا، أو أن تصل إلى سدة الحكم في إيطاليا وهولندا والمجر وقريباً في إسبانيا وبعد غد فرنسا، أنظمة لا تعرف للتسامح طريقاً؟
الآن ومن خلال دعوة الإمارات لعام التسامح، تعود إلى العالم العربي والإسلامي لحظات تنويرية من ماضيه المجيد، حين صدَّر للعالم برمَّته نسقاً إنسانياً رفيعاً قبل الآخر، وشاركه العيشَ والعملَ والإبداعَ، وبنى معه حضارة لا تزال تتحدث بها الركبان حول العالم.
حين تتحدث الإمارات عن التسامح فهي لا تغزل غزلاً نظرياً في أجواء المستقبل، ذلك أن ماضيها يؤكد أنها فتحت أبوابَها لجميع شعوب الأرض، ووفرت أجواءً من السماحة الحقيقية لكل البشر من كافة الأجناس والأعراق، وفيما هي تمضي للعلا كان اهتمامُها بالحريات الدينية والحرص على صونها ديدَنُها، ذلك الذي كفلته بقوة التشريعات القانونية، وحتى لا يُصبح المشهد خياراً وترفاً، فالتسامحُ قانونٌ أخلاقي يحمينا من إغراءات النفس الأمارة بالسوء. عام التسامح هو ترسيخ لأحجار الزاوية الإماراتية التي تربط البشر والحجر، وتعزز الوشائج ما بين حقوق الإنسان والتعددية، وبين الديمقراطية ودولة القانون.
*كاتب مصري