تحوّلت الحياة الثقافية في فرنسا خصوصاً، وفي أوروبا عموماً، إلى خلية نحل تناقش وتساجل. المثقفون على أنواعهم وعلى اختلاف مواقعهم الأيديولوجية، يراجعون ما حدث في فرنسا، مع حركة «السترات الصفراء» وما رافقها من مطالب ومن عنف. الخطط والاقتراحات تتوالى من أقصى اليمين ومن أقصى اليسار، فضلاً عن المساحة العريضة الممتدة بينهما. مثقّفون واقتصاديّون كالفرنسي توماس بيكيتي، والوزير اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، وقبلهما الفيلسوف والسوسيولوجي إدغار موارن.. كلهم، وسواهم، أدلوا بدلوهم تفسيراً للحدث أو تقديماً لاقتراحاتٍ تبغي تلافيه.
الأسئلة كثيرة بطبيعة الحال، خصوصاً عند المذعورين من حصول الانفجار في فرنسا الديمقراطية الليبرالية، بعد رهان الكثيرين على حصول انفجار كهذا في أحد البلدان التي استولت عليها الشعبوية القومية. فأن تسقط فرنسا ماكرون فهذا خطير، لاسيما في ظلّ قوّة الشعبويّة اليمينيّة مرموزاً إليها بمارين لوبين، وكذلك الشعبويّة اليساريّة التي يرمز إليها جان لوك ميلنشون. يزيد في خطورة الأمر باقي الأوضاع الأوروبية، حيث إن المجهول يلف مستقبل بريطانيا ما بعد بريكسيت، كما أن مستقبل ألمانيا ما بعد المستشارة أنجيلا ميركل لا يخلو من التلبّد، فيما إيطاليا يحكمها ائتلاف يميني وشعبوي.
وفوق هذا، تبدّى مؤخراً أن باقي بلدان القارة ليست بالضرورة بمنأى عما حصل في فرنسا. مثلاً، تظاهر آلاف الأتراك في مدينة ديار بكر، جنوب شرقي البلاد، احتجاجاً على ارتفاع الأسعار. هذا في الجنوب. لكنْ إلى الشمال، وبما يتجاوز أوروبا إلى الضفة الأخرى من الأطلسي، شهدت العديد من المدن الكندية تظاهرات لأصحاب «السترات الصفراء» مقلّدين ما حصل في فرنسا.
وإذ باتت تتكرر عبارة «هناك شعبان» في تناول الحالات المعنيّة، بما يعنيه ذلك من انشقاقات عميقة قد تصدّع الوحدات الوطنية في بلدان عدة، وقد تستدعي مراجعة العقد الاجتماعي فيها، أو ربما إعادة اختراعه، تعود إلى الصدارة المسألة الأم التي يستحيل تجنبها: فقد أنتجت العولمة ثراءً وغنى غير مسبوقين في التاريخ، إلا أنهما ترافقا، ويترافقان، مع نظام بالغ الإجحاف في توزيع الثروة. وما يزيد الأمر سوءاً أن القطاعات الاقتصادية القديمة والمتقادمة، من زراعية وصناعية، كفّت عن إنتاج فرص عمل لطالبيها، في ظل التهميش الذي أنزلته بها العولمة. وهذا ما يلقي بمناطق وطبقات بكاملها في جحيم البطالة والعوز. إلا أن الاقتصاد المعولم الصاعد والمولّد للثروات الهائلة، يفتقر بالتعريف إلى القدرة على إنتاج فرص العمل المطلوبة.
وهذا ما يرتّب معضلة ليس من السهل حلّها لفظياً أو ديماغوجياً عن طريق اتهام اللاجئين والمهاجرين بالتسبب في المشكلة. ذلك أن المطالبة بوقف العولمة الاقتصادية، وسائر الوجوه الأخرى للعولمة، تبقى نوعاً من الوهم الذي «يعالج» مشكلات الحاضر والمستقبل باقتراح العودة إلى الماضي. ومع ذلك، فما يبقى ممكناً، بل ضروري، هو إدماج العولمة الاقتصادية بعولمة سياسية ومؤسسية قد يكون المدخل إليها توحيد بعض القوانين، لاسيما في البلدان الرأسمالية المتقدمة. فالتجربة الفرنسية الأخيرة تقول، مثلاً لا حصراً، إن رفع الضرائب على الأغنياء شرط لابد منه من أجل إنجاز إصلاحات ماكرون التي تكسر البيروقراطية الفرنسية التقليدية وتقوّي موقع فرنسا في التنافس التجاري. لكن رفع هذه الضرائب، والذي يحد من معاناة الفئات الأضعف والأفقر، والتي لا تحتمل الأكلاف التي سيرتبها الإصلاح، سيؤدي حكماً إلى هروب الرساميل والاستثمارات من فرنسا. من هنا، يغدو توحيد النظام الضريبي وإغلاق الفراديس الضريبية، فضلاً عن الامتناع عن استقبال الرساميل الهاربة، أقلّه داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، شرطاً لدمج المطلبين: تحديث الاقتصاد الفرنسي وعدم تحميل الفقراء وحدهم أكلاف هذا التحديث.
هذه المسألة ربما تحولت إلى أهم عناوين الحياة العامة، لا في فرنسا فحسب، بل في بلدان كثيرة تعيش تجارب مشابهة يُحتَمل أن تغدو خطيرة ومقلقة.


*كاتب ومحلل سياسي- لندن