مع نهاية هذا العام 2018 يمر على تأسيس أول حكومة سورية مائة عام بعد انتهاء المرحلة العثمانية، حيث تشكلت في 1 أكتوبر عام 1918 أول حكومة وطنية عربية منذ أن انتهى حكم الأمويين الذي استمر 132 سنة، وقد خضعت سوريا بعده للعباسيين، ثم توالت على حكمها أسر وطوائف وأعراق متعددة مثل (الحمدانيين والسلجوقيين والفاطميين) ثم حكمها الأيوبيون والمماليك، إلى أن جاءت المرحلة العثمانية التي انتهت قبل مائة عام تحديداً، لتبدأ أول حكومة سورية وطنية عربية بقيادة البلاد برئاسة علي رضا الركابي بتفويض من الجنرال «أدموند ألنبي» وعبر ولاء للشريف حسين، وقد تشكل أول مؤتمر وطني سوري مثّل كل مناطق سوريا التاريخية، لتصير لاحقاً مملكة يتولاها الملك فيصل الأول القادم من الحجاز حاكماً.
والطريف أن هذه الحكومة السورية ضمت أغلبية عربية من غير السوريين، فقد كان رئيسها سورياً أردنياً، ومستشارها السياسي نوري السعيد ومستشارها العسكري جعفر العسكري، ووزير حربيتها ياسين الهاشمي والثلاثة من العراق، وكان أربعة من كبار وزرائها من لبنان هم عادل أرسلان وسعيد شقير ورشيد طليع وإسكندر عمون، وفيها سوريان هما ساطع الحصري الحلبي الأصل اليمني الولادة العراقي النشأة، وفيها الدمشقي سليم موصلي، وهذا يكشف أن السوريين عامة كانوا يأملون أن تضم الدولة الوليدة لبنان والعراق وسوريا الكبرى، وقد خاب أملهم، وهذا الأمل يفسر كونهم الدولة العربية الوحيدة التي سلم رئيسها (شكري القوتلي) عام 1958 رئاسة بلاده لرئيس مصري (جمال عبد الناصر) من دون أي ضغط متنازلاً عن كرسي الحكم ليلبي حلم الشعب بالوحدة العربية.
كان الانتداب الفرنسي لسوريا على مدى ربع قرن قد فجر ثورة الشعب السوري حتى حقق الاستقلال، إلا أن حالة خطيرة من ضياع الهوية السورية بدت في التقسيم الطائفي الذي فرضه الفرنسيون لسنوات على السوريين، فظهرت دويلات سورية (دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة الدروز ودولة العلويين، وإدارة ممتازة لمقاطعة الجزيرة السورية)، فضلاً عن دولة لبنان، ثم فصل لواء اسكندرون.
قاوم السوريون حالة الانقسام التي استمرت فترات تراوحت بين خمس سنين وست عشرة سنة، وكان هذا التقسيم قد أحدث حالة ضياع الهوية التي حاول السوريون الحفاظ عليها عبر مناداة حاسمة بالوحدة الوطنية الجامعة، والتي تحققت شكلياً في مرحلة ما بعد الاستقلال التي شهدت ضياعاً من نوع آخر هو الضياع السياسي الذي حول عقد الخمسينيات إلى مراحل انقلابات عسكرية واضطرابات، توقع السوريون أن يكون الخلاص منها عبر الوحدة مع مصر، لكن مرحلة الوحدة أظهرت نوعاً مختلفاً من الصراع الخفي الذي أخفق في تحقيق توازن في الشراكة بين السوريين والمصريين، فكان الانفصال الذي غيّر مسار تاريخ الحلم بالوحدة، وجاء بعده انقلاب عسكري قاده الناصريون لاستعادة الوحدة ولكن مجموعة من ضباط «بعثيين» ركبوا صهوة الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة من ضياع مختلف آخر، هو البحث الوهمي عن الوحدة (المضيعة) وعن الحرية (المستلبة) وعن الاشتراكية (المحالة إلى متحف التاريخ). وكان من أشكال وأسباب الضياع كون الحزب الحاكم مؤسساً على عقيدة الصراع الطبقي كما تنص منطلقاته النظرية، وهي عقيدة تقوم على الكراهية والبغضاء وتسويغ الاعتداء على شرائح وطنية مهمة من الشعب. لقد تولى الحكم في أواسط الستينيات مجموعات من العسكريين الشباب الصغار الذين لا يملكون ثقافة واسعة، ولا تجارب اجتماعية ناضجة، ولا خبرة لديهم في الحكم والقيادة، وسرعان ما تخلوا عن آبائهم في السياسة والمجتمع، وتأثروا بالفكر الماركسي، وجسدوا ما يسمى (الطفولة اليسارية)، وقد رسخ هذا المسار حالات الفوضى والفساد التي أوصلت البلاد إلى الهاوية. والمفجع أن نجد حالات الضياع لا تزال مسيطرة إلى اليوم على الحياة السياسية في سوريا، فالنظام الذي واجه مطالب شعبه بالقمع والعنف الفظيع، يرى نفسه الآن منتصراً على الشعب، من دون أن يلحظ خطر ضياع سوريا التي قُسّمت إلى مناطق احتلال ونفوذ تقاسمتها دول كبرى. أليس عجيباً ألا يستفيد من التجربة المريرة التي مرت بها سوريا، وألا يعرف مخرجاً من هذا الضياع التاريخي المريع؟ أما آن أن يعترف بأن الحرية والكرامة هما من بدهيات حقوق الإنسان؟
*وزير الثقافة السوري الأسبق