ألغت شبكة «الإنترنت» المسافات، واخترقت السدود والحدود، مازجة بين الكلمة والصوت والصورة في صيغة رقمية، بعد أن دمجت الحوسبة بالاتصال، وأزالت الفواصل بين العمل والترفيه، وفتحت نافذة وسيعة للجماهير الغفيرة كي تشارك في ثورة اتصال تغير كل يوم أنماط الحياة والتفكير في مختلف دول العالم، بدرجات متفاوتة، وتنتج مشاهد ومعالم وأحوالا لا تُصم عنها أذن سميعة، ولا تغمض عنها عيون بصيرة.
وما جرى في الإعلام خلال السنوات الأخيرة هو تطور هائل وفارق بكل المقاييس، يمكن أن نصفها بأنها «ثورة إعلامية» أو اتصالية، تضاف إلى الثورات الناعمة التي يشهدها العالم، والتي تغيرنا من دون إراقة أي قطرة من دم، لاسيما بعد أن صارت الثورات السياسية نفسها تنساب في سلاسة وسلامة عبر التطور الديمقراطي، كما يقول "جون فوران" وزملاؤه في كتابهم الأثير «مستقبل الثورات». والثورة الاتصالية تلك تكسر النماذج الإرشادية التقليدية، متسقة في هذا مع الطفرات المعرفية التي شهدها العالم في العقول الأخيرة، ومن ثم لا يمكن فهمها أو الإحاطة بها اعتماداً على طرق التفسير التقليدية لأداء الإعلام، ونظرياته البسيطة المعهودة، بل تحتاج إلى اقترابات ومداخل مبتكرة وجديدة تواكب التطور الرهيب الذي يشهده عالم الاتصال.
ولهذه الثورة سمات عدة، سأشرحها عبر النقاط التالية:
1 ـ توسيع المشاركة الشعبية في صناعة الإعلام، بما جعلنا نشهد ما يمكن أن يسمى بــ «المواطن الصحافي»، إذ بوسع أي شخص أن يكتب ما يشاء ويبثه على الإنترنت في موقع خاص أو مدونة أو حتى في تعقيب على مقالات الكتاب، وأخبار وتقارير وتحليلات وتحقيقات الصحافيين. وهذا الاتساع حقق كل ما حلم به من كتبوا منذ عقود عن «مسرح المقهورين» متخيلين ومطالبين بأن يشارك المتفرجون في صناعة النص المسرحي وتمثيله.
2 ـ تعزيز الفردية، التي تتغول دوماً بفعل التقدم التقني وتغير بعض أنماط وطرائق المعيشة، فمثلاً أدى اختراع الطباعة وتقدمها إلى إنهاء التجمعات البشرية التي كانت تتحلق حول شخص يقرأ لهم مخطوطاً، وبات بوسع كل شخص أن يقرأ كتابه مختلياً بنفسه، كما أدى اختراع الساندويتش إلى انصراف أفراد الأسرة عن التجمع لتناول الوجبات اليومية المعتادة، وعلى المنوال نفسه فإن الإنترنت ستزيد من عزلة الفرد عن المحيطين به مباشرة من أفراد الأسرة والأصدقاء والرفاق، وتعيد دمجه في «مجتمع افتراضي»، ليصبح له أصدقاء من شتى أرجاء المعمورة قد لا يرى وجوههم أبداً، لكنه يتواصل معهم ويقضي بصحبتهم ساعات طويلة عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. ومثل هذا الوضع قد يعيد في المستقبل تشكيل الهويات والانتماءات.
3 ـ إعطاء دفعة قوية لاقتصادات المعرفة، فإذا كان النفط قد لعب دوراً حيوياً في الثورة الصناعية، فإن عالم الرقميات ستكون له اليد الطولى في الطفرات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى جاهدة إلى الاعتماد على بدائل جديدة للطاقة، وإلى إنتاج سلع جديدة، لم يعرفها العالم من قبل.
4 ـ ظهور تحدي للسلطة السياسية، عبر منازعتها في امتلاك وسائل الإعلام، والرد عليها حين تستخدم هذه الوسائل في التعبئة والحشد وتبرير السياسات القائمة، وتزييف الوعي. وقد بلغ الإعلام في هذا حداً عالياً، إلى درجة أنه بات يمثل الرقيب الحقيقي على أداء الحكومات، في ظل نظم تتراوح بين الشمولية والطغيانية، حولت البرلمانات إلى مقهى عام، وسلبتها وظيفة المراقبة، ووظفت دورها في تشريع القوانين لخدمة من هم في سدة الحكم وتابعيهم.
5 ـ الإفراط في استخدام الإعلام كركيزة أساسية في السجال العقائدي الذي يدور في العالم أجمع، لاسيما بعد أن صار الدين يشكل عاملاً بارزاً من عوامل الصراع الدولي الراهن، بفعل إذكاء الولايات المتحدة لمسار «الإسلاموفوبيا» في سياق بحثها عن عدو عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، من جهة، وطرحها فكرة «الفوضى الخلاقة» التي تقوم على إشعال النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، من جهة ثانية، وتعزز قدرة التنظيمات والجماعات المتطرفة والإرهابية على استخدام الشبكة العنكبوتية في التجنيد والتعبئة والدعاية والتحريض وتوجيه أتباعها نحو أهدافهم، من جهة ثالثة.
ومع تغول العولمة وعودة الاستعمار التقليدي، بعد أن ظنت الأغلبية من علماء السياسة أنه قد ذهب إلى غير رجعة، يتصاعد دور الإعلام في المقاومة، وتتناسل أيضاً مواقع على شبكة الإنترنت لبعض الجماعات والتنظيمات والحركات المناوئة للولايات المتحدة، عبر العالم، سواء كانت دينية أم يسارية.

روائي ومفكر سياسي ـ مصر